ولأهل باريز حرص تام على التكسب رجالهم ونسائهم لا يتقاعدون ولا يكاسلون ، والنساء مثل الرجال في ذالك أو أكثر (١). ولا تجد أحدا منهم خاليا عن شغل ، وإن كان عندهم من أنواع البطالات والفرجات العجب العجاب. لاكن ذالك لا يلهيهم عن أشغالهم ، فيعطون لكل وقت ما يستحقه. وتلك الفرجات تعينهم على أشغالهم لما فيه من استراحة النفس ليعودوا لها بنشاط. ولا يرضى أحد منهم أن يكون فقيرا ، فإن الموت عندهم أهون من الفقر ، وصاحبه حقير دليل كما قيل :
ذريني للغنى أسعى فإني |
|
رأيت الناس شرهم الفقير |
وأحقرهم وأهونهم عليه |
|
وإن كانا له نسب وخير |
يباعده القريب وتزدريه |
|
حليلته وينهره الصغير |
وتلقى ذا الغنا وله جلال |
|
يكاد فؤاد صاحبه يطير (٢) |
وقد قيل : الفقر رأس كل بلاء وداعية إلى مقت الناس ، وهو مع ذالك مسلبة للمروءة مذهبة للحياء ، ومتى نزل بالرجل الفقر لم يجد بدا من ترك الحياء. وقد قيل : من حفظ دينه حفظ الأكرمين ، عرضه ودينه. وقال الشاعر :
لا تلمني إذا اقتنيت الأواقي |
|
فالأواقي لماء وجهي أواقي |
وقال لقمان (٣) لابنه : «يا بني أكلت الحنظل ودقت الصبر ، فلم أر شيئا أمر من
__________________
(١) انظر الفصل الحادي عشر الذي خصصه الطهطاوي من رحلته لهذا الجانب تحت عنوان «في كسب مدينة باريس ومهارتها» ، تخليص ، ص. ١٤٩ ـ ١٥٣ ؛ ١٧٥ ـ ١٧٣.L\'or ,pp
(٢) قارن بين هذه الأبيات وما نظمه شاعر تازة ابن شجاع ، وقد أوردها ابن خلدون في المقدمة ، انظر : Muqaddimah ٣ : ٩٦٤.
(٣) من الأسماء المعروفة قبل الإسلام ، وقد اشتهر لقمان بحكمه البليغة المنتشرة في الأوساط العربية والإسلامية ، SEI ,s.v."Lukman "