يلقيها أحدهم للآخر من سب أو قذف مثلا. ولا يسع المدعو له إلا أن يجيب ، وإلا بقي يعاير بالجبن والذلة طول عمره. ويتشارطون في البراز كيف يكون ، وبأي سلاح يقاتلون وكيفية المحاربة ومحلها ، وغير ذالك من الأمور المتعلقة بذالك ، ولا يتعرض لهم في ذالك حاكم ولا غيره. ولهم حظ وافر في الأدب الدنيوي والظرافة والرقة والحضارة ، ويراعون الأدب في مخاطبتهم وكلامهم ، فلا تكاد تسمع منّهم السّاقط في الكلام ، ولا يتعرضون للغريب من دينهم أو من المسلمين بسوء. ولا ينادي عليه صبيانهم ولا يوذونهم كما يسمع على غيرهم من بعض أجناس النصارى ، وذالك من جملة ما يتعلمونه ويقرءونه ويدونونه في الكتب ، لتكون لهم بذالك المزية على غيرهم. وقد اختصوا من بين أجناس سائر النصارى بالأدب والحضارة والمروءة الدنيوية ، حتى أن كبراء الأجناس يرسلون أولادهم لباريز لتعلم آداب الفرنسيس وتربيتهم ، واختصت باريز بذالك لأنها دار ملكهم وأحضر بلادهم.
ومن أوصافهم أنهم أصحاب جد في بيعهم وشرائهم وسائر معاملاتهم وتصرفاتهم ، فلا تجد فيهم غشا كما هو في اليهود ، ولا ترى فيهم خروجا عن الطريق ، وليسوا فجارا إلا في دينهم. ولهم اعتناء تام بالنظافة الظاهرة في بيوتهم وأزقتهم وحوانيتهم وأبدانهم وملابسهم ، فلا ترى على أحد منهم ثوبا وسخا ولا ملطخا بقذر ، ولا يكون في الغالب إلا جديدا. وفي حاراتهم وأسواقهم أقوام جالسون على كراسيهم ، وبيدهم أمشاط من الشعر يمشطون بها الملف والنعال. فمن رءا في ثوبه تغييرا أو في نعله غبار ونحوه ، وقف عند واحد منهم فيمشط له ثوبه ويمسح نعله حتى يرجع له لمعان كأنه جديد ، ويعطيه أجرته على ذالك.
ولا يغفلون يوما واحدا على نفض فرشهم التي ينامون عليها ، وبعد يومين أو ثلاثة يبدلون بطانتها وظهارتها بأخرى نظيفة. وكذلك الفوط التي تجعل على حجر الآكلين ، لا تكون دائما إلا نظيفة. وإذا أصابها شيء من الإدام أو الطعام أو مسح بها اليد ، لا يأتيك بها مرة أخرى حتى تغسل وتنظف. ولا ترى في طرقهم من الكناسة والزبل أصلا ، وكل يوم تكنس وترش بالماء إن لم يكن المطر. إلا أن أعيب ما يعاب فيها أنهم يبولون في أصول الحيطان ، والماء المضاف بالبول يجري على وجه الأرض ، لاكن يشفع في ذالك سعة الطريق حتى يبقى ذالك في ناحية لا يضر بالماشين. ولا ترى أبواب حوانيتهم ودورهم وشبابيك طيقانهم وفناراتهم التى توقد في الأسواق والحوانيت إلا ممسوحة نظيفة تشرق وتلمع كأنها اليوم وضعت.