وقد تبيّن بما تقدّم :
أوّلا : أنّ الفلسفة أعمّ العلوم جميعا ، لأنّ موضوعها أعمّ الموضوعات ، وهو «الموجود» (١) الشامل لكلّ شيء (٢). فالعلوم جميعا تتوقّف عليها في ثبوت موضوعاتها (٣). وأمّا الفلسفة فلا تتوقّف في ثبوت موضوعها على شيء من العلوم ، فإنّ موضوعها الموجود العامّ الّذي نتصوّره تصوّرا أوّليّا ونصدّق بوجوده كذلك ، لأنّ الموجوديّة نفسه (٤).
وثانيا : أنّ موضوعها لمّا كان أعمّ الأشياء ولا ثبوت لأمر خارج منه كانت المحمولات المثبتة فيها (٥) إمّا نفس الموضوع ، كقولنا : «إنّ كلّ موجود فإنّه ـ من حيث هو موجود ـ واحد أو بالفعل» ، فإنّ الواحد وإن غاير الموجود مفهوما لكنّه عينه مصداقا ، ولو كان غيره كان باطل الذات غير ثابت للموجود (٦) ؛ وكذلك ما بالفعل. وإمّا ليست نفس الموضوع ، بل هي أخصّ منه ، لكنّها ليست غيره ، كقولنا : «إنّ العلّة موجودة» ؛ فإنّ العلّة وإن كانت أخصّ من الموجود
__________________
ـ الاولى» كما قال الشيخ الرئيس في الفصل الثاني من المقالة الاولى من إلهيّات الشفاء : «وهو الفلسفة الاولى ، لأنّه العلم بأوّل الامور في الوجود ، وهو العلّة الاولى وأوّل الامور في العموم».
(١) بخلاف من قال : «إنّ موضوعه هو الإله» ومن قال : «إنّ موضوعه هو العلل الأربع» ، راجع شرح عيون الحكمة ٣ : ٨ ـ ٩.
(٢) إن قلت : قد يبحث في الفلسفة عن أحوال المعدوم ولا يعتبر فيها الوجود فكيف يشمله الموجود؟ قلنا : الموجود أعمّ من الذهنيّ والخارجيّ ـ كما سيأتي ـ ، والمعدوم وإن كان معدوما بالحمل الأوّليّ لكنّه موجود بالحمل الشائع الصناعيّ.
(٣) فإنّ التصديق بوجود موضوع العلم يعدّ من مباديه ، وإذا لم يكن بديهيّا فيحتاج إلى علم أعلى حتّى يثبت فيه. فمراد المصنّف من «العلوم جميعا» هو غير العلوم الّتي وجود موضوعاتها بديهيّة. كما صرّح به في تعليقته على الأسفار ١ : ٢٥ ، فقال : «ويتبيّن به أيضا أنّ سائر العلوم محتاجة إليها من جهة إثبات وجودها لو لم تكن بديهيّة».
(٤) أي : نفس الوجود.
(٥) أي : الفلسفة.
(٦) أي : لو كان الواحد غير الوجود مصداقا كان باطل الذات ، فإنّ غير الوجود هو العدم ، ولا مصداق للعدم ، فلا يثبت للموجود.