لكنّ العلّيّة ليست حيثيّة خارجة من الموجوديّة العامّة ، وإلّا لبطلت.
وأمثال هذه المسائل مع ما يقابلها تعود إلى قضايا مردّدة المحمول ، تساوي أطراف الترديد فيها الموجوديّة العامّة ، كقولنا : «كلّ موجود إمّا بالفعل أو بالقوّة» (١). فأكثر المسائل في الفلسفة جارية على التقسيم ، كتقسيم الموجود إلى واجب وممكن ، وتقسيم الممكن إلى جوهر وعرض ، وتقسيم الجوهر إلى مجرّد ومادّيّ ، وتقسيم المجرّد إلى عقل ونفس ، وعلى هذا القياس.
وثالثا : أنّ المسائل فيها مسوقة على طريق عكس الحمل ، فقولنا : «الواجب موجود والممكن موجود» في معنى : «الوجود يكون واجبا ويكون ممكنا» ، وقولنا : «الوجوب إمّا بالذات وإمّا بالغير» معناه : «أنّ الموجود الواجب ينقسم إلى واجب لذاته وواجب لغيره».
ورابعا : أنّ هذا الفنّ لمّا كان أعمّ الفنون موضوعا ولا يشذّ عن موضوعه ومحمولاته الراجعة إليه شيء من الأشياء لم يتصوّر هناك غاية خارجة منه يقصد الفنّ لأجلها. فالمعرفة بالفلسفة مقصودة لذاتها من غير أن تقصد لأجل غيرها وتكون آلة للتوصّل بها إلى أمر آخر كالفنون الآليّة ، نعم هناك فوائد تترتّب عليها (٢).
وخامسا : أنّ كون موضوعها أعمّ الأشياء يوجب أن لا يكون معلولا لشيء خارج منه ، إذ لا خارج هناك ، فلا علّة له. فالبراهين المستعملة فيها ليست ببراهين لمّيّة (٣). وأمّا برهان الإنّ فقد تحقّق في كتاب البرهان من المنطق أنّ السلوك من المعلول إلى العلّه لا يفيد يقينا ، فلا يبقى للبحث الفلسفيّ إلّا برهان الإنّ الّذي يعتمد فيه على الملازمات العامّة ، فيسلك فيه من أحد المتلازمين العامّين إلى الآخر.
__________________
(١) فهو في قوّة أن يقال : «الوجود منقسم إلى بالفعل وبالقوّة».
(٢) ولعلّ مراده من الفوائد ما ذكره غاية للفلسفة في بداية الحكمة : ٧ ، من تمييز الموجودات الحقيقيّة من غيرها ، ومعرفة العلل العاليّة للوجود.
(٣) وناقش فيه بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف ، فراجع تعليقته على نهاية الحكمة : ١٤ ـ ١٥.