وهذا هو المراد بقولهم : «إنّ ارتفاع الوجود والعدم عن الماهيّة من حيث هي من ارتفاع النقيضين عن المرتبة ، وليس ذلك بمستحيل ، وإنّما المستحيل ارتفاعهما عن الواقع مطلقا وبجميع مراتبه» (١). يعنون به أنّ نقيض الوجود المأخوذ في حدّ الذات ليس هو العدم المأخوذ في حدّ الذات ، بل عدم الوجود المأخوذ في حدّ الذات ، بأن يكون حدّ الذات ـ وهو المرتبة ـ قيدا للوجود لا للعدم ، أي رفع المقيّد دون الرفع المقيّد (٢).
ولذا قالوا : «إذا سئل عن الماهيّة من حيث هي بطرفي النقيضين كان من الواجب أن يجاب بسلب الطرفين مع تقديم السلب على الحيثيّة حتّى يفيد سلب
__________________
(١) راجع الأسفار ٢ : ٤ ـ ٥ ، والقبسات : ٢١ ـ ٢٢. وقال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٩٣ : «وارتفاع النقيضين عن المرتبة جائز ، لأنّ معناه أنّ كلّ واحد منهما ليس عينا للماهيّة ولا جزءا منها ، وإن لم يخل عن أحدهما في الواقع».
(٢) بيان ذلك : أنّ في المقام شبهة أشار إليها صدر المتألّهين ، ثمّ أجاب عنها.
أمّا الشبهة فهي : أنّه كيف كانت الماهيّة في حدّ ذاتها لا موجودة ولا معدومة ، وخلوّ الماهيّة عن الوجود والعدم ارتفاع للنقيضين وهو محال؟!
وأمّا الجواب فقد أجاب عنها بوجهين :
الأوّل : أنّ خلوّ الشيء عن النقيضين في بعض مراتب الواقع ـ كمرتبة ذات الماهيّة ـ ليس بمحال ، بل إنّما المحال خلوّه عنهما في جميع مراتب الواقع ، أي مرتبة الذات ومرتبة الوجود الذهنيّ ومرتبة الوجود الخارجيّ.
الثاني : أنّ الوجود المنفي عن الماهيّة من حيث هي هي هو الوجود المقيّد بكونه في مرتبة ذات الماهيّة ، لا مطلق الوجود. ونقيض ذلك الوجود المقيّد بكونه في المرتبة هو رفع ذلك الوجود المقيّد ، بأن تكون المرتبة ظرفا للمرفوع لا الرفع ، فنقيضه رفع للمقيّد لا الرفع المقيّد ، أي العدم المقيّد بالمرتبة ، فالعدم المقيّد ليس نقيض الوجود المقيّد حتّى يستلزم من خلوّ الماهيّة عنهما ارتفاع النقيضين ، بل نقيضه عدم الوجود المقيّد ، وهو ليس بمرفوع.
والمصنّف رحمهالله لمّا رأى بطلان الجواب الأوّل ـ حيث إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص ، فإنّ تخصيصها يوجب هدمها ، مضافا إلى أنّه يستلزم القول بأنّ اجتماع النقيضين محال مطلقا ، ولكن ارتفاعهما جائز في بعض الموارد ، وهو ممّا لم يتفوّه به أحد ـ فسّره بما يرجع إلى الجواب الثاني ، وهو إنكار كون خلوّ الماهيّة في مرتبة ذاتها عن الوجود والعدم من ارتفاع النقيضين ، كما مرّ.