أن نرتاب في أنّ هناك وجودا ، ولا أن ننكر الواقعيّة مطلقا ، إلّا أن نكابر الحقّ فننكره أو نبدي الشكّ فيه ، وإن يكن شيء من ذلك فإنّما هو في اللفظ فحسب.
فلا يزال الواحد منّا وكذلك كلّ موجود يعيش بالعلم والشعور يرى نفسه موجودا واقعيّا ذا آثار واقعيّة ، ولا يمسّ شيئا آخر غيره إلّا بما أنّ له نصيبا من الواقعيّة.
غير أنّا كما لا نشكّ في ذلك لا نرتاب أيضا في أنّا ربّما نخطؤ ، فنحسب ما ليس بموجود موجودا أو بالعكس ، كما أنّ الإنسان الأوّليّ كان يثبت أشياء ويرى آراءا ننكرها نحن اليوم ونرى ما يناقضها ، وأحد النظرين خطأ لا محالة (١). وهناك أغلاط نبتلي بها كلّ يوم ، فنثبت الوجود لما ليس بموجود وننفيه عمّا هو موجود حقّا ، ثمّ ينكشف لنا أنّا أخطأنا في ما قضينا به.
فمسّت الحاجة إلى البحث عن الأشياء الموجودة وتمييزها بخواصّ الموجوديّة المحصّلة ممّا ليس بموجود (٢) ، بحثا نافيا للشكّ منتجا لليقين ، فإنّ هذا النوع من البحث هو الّذي يهدينا إلى نفس الأشياء الواقعيّة بما هي واقعيّة. وبتعبير آخر : بحثا نقتصر فيه على استعمال البرهان ، فإنّ القياس البرهانيّ هو المنتج للنتيجة اليقينيّة من بين الأقيسة ، كما أنّ اليقين هو الاعتقاد الكاشف عن وجه الواقع من بين الاعتقادات. فإذا بحثنا هذا النوع من البحث أمكننا أن نستنتج به أنّ كذا موجود وكذا ليس بموجود.
ولكنّ البحث عن الجزئيّات خارج من وسعنا (٣) ، على أنّ البرهان لا يجري
__________________
ـ يحسبه الظمآن ماءا حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا.
والإنسان لا يقصد القسم الأخير مشعرا بأنّه من الوهميّات الصرفة الّتي لم تكن منشئا للآثار ، بل إنّما يقصده زعما أنّه عين خارجيّة أو منته إليها. فالإنسان إنّما يقصد الشيء لأنّه عين خارجيّة أو منته إليها ، سواء وصل إلى ما يقصد أو لم يصل إليه لكشف خلافه.
(١) وإلّا يلزم اجتماع النقيضين.
(٢) قوله : «المحصّلة» صفة للخواصّ ، أي الخواصّ الّتي تتحصّل وتتعيّن بها الموجوديّة ويتميّز بها الموجود ممّا ليس بموجود.
(٣) لأنّها غير متناهية.