(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣)
____________________________________
فى موقع التفصيل كما فى قول من قال[إذا ما بكى من خلفها انصرفت له * بشق وشق عندنا لم يحول] وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره ولذلك أوثر تقديمه على الخبر الذى هو (عِنْدَهُ) مع أن الشائع المستفيض* هو التأخير كما فى قولك عندى كلام حق ولى كتاب نفيس كأنه قيل وأى أجل مسمى مثبت معين فى علمه لا يتغير ولا يقف على وقت حلوله أحد لا مجملا ولا مفصلا وأما أجل الموت فمعلوم إجمالا وتقريبا بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد فى أعمار الإنسان وتسميته أجلا إنما هى باعتبار كونه غاية لمدة لبثهم فى القبور لا باعتبار كونه مبدأ لمدة القيامة كما أن مدار التسمية فى الأجل الأول هو كونه آخر مدة الحياة لا كونه أول مدة الممات لما أن الأجل فى اللغة عبارة عن آخر المدة لا عن أولها وقيل الأجل الأول ما بين الخلق والموت والثانى ما بين الموت والبعث من البرزخ فإن الأجل كما يطلق على آخر المدة يطلق على كلها وهو الأوفق لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الله تعالى قضى لكل أحد أجلين أجلا من مولده إلى موته وأجلا من موته إلى مبعثه فإن كان براتقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث فى أجل العمر وإن كان فاجرا قاطعا نقص من أجل العمر وزيد فى أجل البعث وذلك قوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فمعنى عدم تغير الأجل حينئذ عدم تغير آخره والأول هو الأشهر الأليق بتفخيم الأجل الثانى المنوط باختصاصه بعلمه تعالى والأنسب بتهويله المبنى على مقارنته للطامة الكبرى فإن كون بعضه معلوما للخلق ومضيه من غير أن يقع فيه شىء من الدواهى كما يستلزمه الحمل على المعنى الثانى مخل بذلك قطعا ومعنى زيادة الأجل ونقصه فيما روى تأخير الأجل الأول وتقديمه (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد واستنكار لامترائهم فى البعث بعد معاينتهم لما ذكر من* الحجج الباهرة الدالة عليه أى تمترون فى وقوعه وتحققه فى نفسه مع مشاهدتكم فى أنفسكم من الشواهد ما يقطع مادة الامتراء بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها من العلم والقدرة وسائر الكمالات البشرية على مادة غير مستعدة لشىء منها أصلا كان أوضح اقتدارا على إفاضتها على مادة قد استعدت لها وقارنتها مدة ومن ههنا تبين أن ما قيل من أن الأجل الأول هو النوم والثانى هو الموت أو أن الأول أجل الماضين والثانى أجل الباقين أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثانى مقدار ما بقى منه مما لا وجه له أصلا لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم فى البعث الذى عبر عن وقته بالأجل المسمى فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففى أى شىء يمترون ووصفهم بالامتراء الذى هو الشك وتوجيه الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاء البعث مصرون على إنكاره كما ينبىء عنه قولهم أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ونظائره للدلالة على أن جزمهم المذكور فى أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار وقوله تعالى (وَهُوَ اللهُ) جملة من مبتدأ وخبر معطوفه على ما قبلها مسوقة لبيان شمول أحكام إلهيته تعالى لجميع المخلوقات وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء إثر الإشارة إلى تحقق المعاد فى تضاعيف بيان كيفية خلقهم وتقدير آجالهم وقوله تعالى (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بالمعنى*