(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦)
____________________________________
عن أحد والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنها شىء مغاير له فى الحقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أن الأول هو عين الثانى حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتبارى وقد لتحقيق ذلك المعنى كما فى قوله تعالى (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) بعد قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) فإن ما جاءوه أى فعلوه من الظلم والزور عين قولهم المحكى لكنه لما كان مغايرا له مفهوما وأشنع منه حالا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره كذلك مفهوم التكذيب بالحق حيث كان أشنع من مفهوم الإعراض المذكور أخرج مخرج اللازم البين البطلان فرتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيدا لشناعته وتمهيدا لبيان أن ما كذبوا به آثر ذى أثير له عواقب جليلة ستبدولهم البتة والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا فى حاله ومآله ويقفوا على ما فى تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه كقوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) كما ينبىء عنه قوله* تعالى (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإن ما عبارة عن الحق المذكور عبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه وتعليلا للحكم بما فى حيز الصلة وأنباؤه عبارة عما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة التى نطقت بها آيات الوعيد وفى لفظ الأنباء إيذان بغاية العظم لما أن النبأ لا يطلق إلا على خبر عظيم الوقع وحملها على العقوبات الآجلة أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية وسوف لتأكيد مضمون الجملة وتقريره أى فسيأتيهم البتة وإن تأخر مصداق أنباء الشىء الذى كانوا يكذبون به قبل من غير أن يتدبروا فى عواقبه وإنما قيل يستهزءون إيذانا بأن تكذيبهم كان مقرونا بالاستهزاء كما أشير إليه هذا على أن يراد بالآيات الآية القرآنية وهو الأظهر وأما إن أريد بها الآيات التكوينية فالفاء داخلة على علة جواب شرط محذوف والإعراض على حقيقته كأنه قيل إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجب فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذى هو أعظم الآيات ولا مساغ لحمل الآيات فى هذا الوجه على كلها أصلا وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن فما ينبغى تنزيه التنزيل عن أمثاله (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بالأنباء التى سبق بها الوعيد وتقرير إتيانها بطريق الاستشهاد وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية وهى عرفانية مستدعية لمفعول واحدوكم استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما فى حيزها مسد مفعولها منصوبة بأهلكنا على المفعولية على أنها عبارة عن الأشخاص ومن قرن مميز لها على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم برهة