من الدهر كما فى قوله عليه الصلاة والسلام خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم الحديث وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان والمضاف محذوف أى من أهل قرن وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنها عبارة عن المصدر أو عن الزمان فتعسف ظاهر ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أى ألم يعرفوا بمعاينة الآثار وسماع الأخباركم أمة أهلكنا من قبل أهل مكة أى من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كعاد وثمود وأضرابهم وقوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) استئناف لبيان كيفية الإهلاك وتفصيل مباديه مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل كيف كان ذلك فقيل مكانهم الخ وقيل هو صفة لقرن لما أن النكرة مفتقرة إلى مخصص فإذا وليها ما يصلح مخصصا لها تعين وصفيته لها وأنت خبير بأن تنوينه التفخيمى مغن له عن استدعاء الصفة على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الاربع أمرا مفروغا عنه غير مقصود بسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم كيف لا والمعنى حينئذ ألم يرواكم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم وأنه بين الفساد وتمكين الشىء فى الأرض جعله قارا فيها ولما لزمه جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه فى الأرض ومنه قوله تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) وأخرى مكن له فى الأرض ومنه قوله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر ومنه قوله تعالى (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) بعد قوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) كأنه* قيل فى الأول مكنا لهم أو فى الثانى ما لم نمكنكم وما نكرة موصوفة بما بعدها من الجملة المنفية والعائد محذوف محلها النصب على المصدرية أى مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم والالتفات لما فى مواجهتهم بضعف الحال مزيد بيان لشأن الفريقين ولدفع الاشتباه من أول الأمر عن مرجعى الضميرين (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) * أى المطر أو السحاب أو المظلة لأنها مبدأ المطر (عَلَيْهِمْ) متعلق بأرسلنا (مِدْراراً) أى مغزارا حال من* السماء (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ) أى صيرناها فقوله تعالى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) مفعول ثان لجعلنا أو أنشأناها* فهو حال من مفعوله ومن تحتهم متعلق بتجرى وفيه من الدلالة على كونها مسخرة لهم مستمرة على الجريان على الوجه المذكور ما ليس فى أن يقال وأجرينا الأنهار من تحتهم وليس المراد بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم فى كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادى الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئا والمعنى أعطيناهم من البسطة فى الأجسام والامتداد فى الأعمار والسعة من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا فى استجلاب المنافع واستدفاع المضار ما لم نعط أهل مكة ففعلوا ما فعلوا (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أى أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب فما* أغنى عنهم تلك العدد والأسباب فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب وهذا كما ترى آخر ما به الاستشهاد والاعتبار وأما قوله سبحانه (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أى أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن (قَرْناً آخَرِينَ) بدلا من الهالكين فلبيان كمال قدرته تعالى وسعة سلطانه وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة