إنجيل متّى. ولا توجد في العهد العتيق والجديد الآيات الدالّة على تنزيه الله عن المكان إلّا قليلة. مثل الآية ١ و ٢ من الباب السادس والستّين من كتاب أشعياء ، والآية ٤٨ من الباب السابع من أعمال الحواريين. لكن لمّا كان مضمون هذه الآيات القليلة موافقا للبراهين أوّلت الآيات الكثيرة الغير المحصورة المشعرة بالمكان لله تعالى ، لا هذه الآيات القليلة. وأهل الكتاب أيضا يوافقوننا في هذا التأويل. فقد ظهر من هذا الأمر الثالث أن الكثير إذا كان مخالفا للبرهان يجب إرجاعه إلى القليل الموافق له ، ولا يعتدّ بكثرته. فكيف إذا كان الكثير موافقا والقليل مخالفا؟ فإن التأويل فيه ضروري ببداهة العقل.
الأمر الرابع : قد علمت في الأمر الثالث أنه ليس لله شبه وصورة. وقد صرّح به في العهد الجديد أيضا في مواضع عديدة ، أن رؤية الله في الدنيا غير واقعة في الآية الثامنة عشر من الباب الأول من إنجيل يوحنّا هكذا : «الله لم يره أحد قطّ». وفي الآية السادسة عشر من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس : «لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه». وفي الآية الثانية عشر من الباب الرابع من رسالة يوحنّا الأولى : «الله لم ينظره أحد قطّ». فثبت من هذه الآيات ان من كان مرئيا لا يكون إلها قطّ ، ولو أطلق عليه في كلام الله أو الأنبياء أو الحواريين لفظ الله ومثله. فلا يغترّ أحد بمجرد إطلاق مثل لفظ الله ، ولا يدّعي أن التأويل مجاز ، فكيف يرتكب لأن المصير إلى المجاز يجب عند القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ، سيما إذا دلّ البرهان القطعي على المنع. نعم يكون لإطلاق مثل هذه الألفاظ على غير الله وجه مناسب لكل محل. مثلا إن إطلاقها في الكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليهالسلام على بعض الملائكة ، لأجل ظهور جلال الله فيه ، أزيد من الغير. وفي الباب الثالث والعشرين من سفر الخروج قول الله سبحانه هكذا : «٢ أنا أرسل ملاكي أمامك ليحفظك في الطريق ويدخلك إلى المكان الذي أنا استعديت ٢١ فاحتفظ به وأطع أمره ولا تشاقّه ، إنه لا يغفر إذا أخطأت ، إن اسمي معه ٢٣ وينطلق ملاكي أمامك فيدخلك على الأموريين والحيثانيين والفرزانيين والكنعانيين والحواريين واليابوسانيين الذين أنا أخرجهم». فقوله : (أرسل ملاكي أمامك) وكذا قوله : (وينطلق ملاكي) نصّان على أن الذي كان يسير مع بني إسرائيل في عمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل كان ملكا من الملائكة. وقد أطلق عليه مثل هذه الألفاظ ، كما ستطّلع عليه لأجل ما قلت ، كما يظهر من قوله : (إن اسمي معه). وقد جاء إطلاقها في مواضع غير محصورة على الملك والإنسان الكامل ، بل على آحاد الناس ، بل على الشيطان الرجيم ، بل على غير ذوي العقول أيضا. وقد علم من بعض المواضع تفسير بعض هذه الألفاظ ، وفي بعض المواضع يدلّ سوق الكلام بحيث لا يشتبه على الناظر في بادئ الرأي. وها أنا أورد عليك شواهد هذا الباب وأنقل في هذا الباب عبارة