الثاني : (١) في الآية الثالثة والعشرين من الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا : «فقال لهم أنتم من أسفل ، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم». يعني أني إله نزلت من السماء وتجسّمت. أقول : لما كان هذا القول مخالفا للظاهر لأن عيسى عليهالسلام كان من هذا العالم ، فأوّلوا بهذا التأويل ، وهو غير صحيح بوجهين : الأول : أنه مخالف للبراهين العقلية والنصوص. والثاني : أن عيسى عليهالسلام قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضا في الآية التاسعة عشر من الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا : «لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ، ولكن أنكم لستم من العالم ، بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم» ، وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا : «١٤ لأنهم ليسوا من العالم ، كما أني أنا لست من العالم ١٦ ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم». فقال في حق تلاميذه أنهم ليسوا من العالم وسوّى بينه وبينهم في عدم الكون من هذا العالم. فلو كان هذا مستلزما للألوهية ، كما زعموا ، لزم أن يكونوا كلهم آلهة ، والعياذ بالله. بل التأويل الصحيح أنتم طالبوا الدنيا الدنية وأنا لست كذلك بل طالب الآخرة ورضاء الله ، وهذا المجاز شائع في الألسنة. يقال للزهاد والصلحاء أنهم ليسوا من الدنيا.
الثالث : في الآية الثلاثين من الباب العاشر من إنجيل يوحنا هكذا : «أنا والأب واحد». فهذا يدلّ على اتحاد المسيح بالله. أقول هذا الاستدلال غير صحيح بوجهين : الأول : ان المسيح عليهالسلام عندهم أيضا إنسان ذو نفس ناطقة ، وليس بمتحد بهذا الاعتبار ، فيحتاجون إلى التأويل. فيقولون كما أنه إنسان كامل فكذلك إله كامل. فبالاعتبار الأول مغاير ، وبالاعتبار الثاني متحد. وقد عرفت أن هذا التأويل باطل. والثاني : ان مثل هذا وقع في حق الحواريين في الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : «٢١ ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني ٢٢ وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد ٢٣ أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد» فقوله : (ليكون الجميع واحدا) وقوله : (ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد) وقوله : (ليكونوا مكملين إلى واحد) تدل على اتحادهم. وسوّى في القول الثاني بين اتحاده بالله وبين اتحاده فيما بينهم. وظاهر أن اتحاده فيما بينهم ليس حقيقيا ، فكذا اتحاده بالله. بل الحق أن الاتحاد بالله عبارة عن إطاعة أحكامه والعمل بالأعمال الصالحة. وفي نفس هذا الاتحاد المسيح والحواريون وجميع أهل الإيمان متساوية الأقدام ،
__________________
(١) يتابع المؤلّف هنا براهين وجوب التأويل وصولا إلى إبطال ألوهيّة المسيح ، تلك البراهين التي بدأها مع بداية الفصل الثالث هذا ص ٢٨٠.