«اتفق أني حين كنت بخوارزم ، أخبرت أنه جاء نصراني يدّعي التحقيق والتعمق في مذهبهم. فذهبت إليه ، وشرعنا في الحديث. فقال لي : ما الدليل على نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم؟ فقلت له : كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهمالسلام ، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلىاللهعليهوسلم. فإن رددنا التواتر أو قبلناه لكنّا قلنا أن المعجزة لا تدل على الصدق. فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهمالسلام. وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ، ثم أنهما حاصلان في حق محمد صلىاللهعليهوسلم ، وجب الاعتراف قطعا بنبوّة محمد عليهالسلام ضرورة. إذ عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول. فقال النصراني : لا أقول في عيسى عليهالسلام أنه كان نبيّا ، بل أقول أنه كان إلها. فقلت له : الكلام في النبوّة لا بدّ وأن يكون مسبوقا بمعرفة الإله ، وهذا الذي تقوله باطل ، ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته ، يجب أن لا يكون جسما ولا متحيزا ولا عرضا. وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوما ، وقتل بعد أن كان حيا على قولكم ، وكان طفلا أولا ، ثم صار مترعرعا ، ثم صار شابا ، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ. وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديما والمحتاج لا يكون غنيا والممكن لا يكون واجبا والمتغير لا يكون دائما (١). والوجه الثاني : في إبطال هذه المقالة ، أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حيّا على الخشبة وقد مزقوا ضلعه ، وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم ، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد. فإن كان إلها أو كان الإله حالا فيه أو كان جزءا من الإله حالا فيه ، فلم لم يدفعهم عن نفسه ، ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله انني لأتعجب جدا أن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته فتكاد أن تكون بداهة العقل شاهدة بفساده. والوجه الثالث : وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد ، أو يقال حلّ الإله بكليته ، أو حلّ بعض الإله وجزء منه فيه. والأقسام الثلاثة باطلة. أما الأول فلأن إله العالم ، لو كان هو الجسم ، فحين قتله اليهود ، كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم. فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله؟ ثم أن أشدّ الناس ذلا ودناءة اليهود ، فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز. وأما الثاني ، وهو أن الإله بكليته حلّ في هذا الجسم ، فهو أيضا فاسد. لأن الإله ، إن لم يكن جسما ولا عرضا ، امتنع حلوله في الجسم ، وإن كان جسما فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم ، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله ، وإن كان عرضا كان محتاجا إلى المحل ، وكان الإله محتاجا إلى غيره وكل ذلك
__________________
(١) يتابع المؤلف تفصيل الأمر الأول في كون القرآن معجزا في البلاغة ...