بل كان على حضرته غلبة الأحكام الروحانية ، فكذلك اللذات الجسمانية لا تكون مانعة عن اللذات الروحانية لأهل الجنّة مع كونهم في النشأة الأخرى.
وأما الجواب عن الأمر الثالث : فيجيء في الباب السادس إن شاء الله ، لأن الجهاد في مطاعن النبيّ صلىاللهعليهوسلم عندهم من أعظم المطاعن فأذكره في المطاعن هناك.
الشّبهة الرابعة : ان القرآن لا يوجد فيه ما يقتضيه الروح ويتمناه.
والجواب : ان ما يقتضيه الروح ويتمناه أمر أن الاعتقادات الكاملة والأعمال الصالحة والقرآن مشتمل على بيان كلّا النوعين على أكمل وجه ، كما عرفت في جواب الشّبهة الأولى. ولا يلزم من عدم بعض الأمور التي هي مقتضيات الروح على زعم علماء پروتستنت نقصان القرآن ، كما لا يلزم نقصان التوراة والإنجيل والقرآن من عدم الأمر الذي هو مقتضى الروح ، على زعم علماء مشركي الهند من البراهمة ، كما سمعت منهم أنهم يقولون إنّ ذبح الحيوان لأجل الأكل والتلذذ خلاف مقتضى الروح وغير مستحسن عند العقل جدا ، ولا يتصور أن يحصل له الإجازة فيه من جانب الله ، فالكتاب المشتمل عليه لا يكون من جانب الله.
الشّبهة الخامسة : يوجد في القرآن الاختلافات المعنوية. مثلا قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ...) [البقرة : ٢٥٦]. وقوله في سورة الغاشية : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١ ـ ٢٣] ، وقوله في سورة النور : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النور : ٥٤]. وهذه الآيات تخالف الآيات التي فيها أمر الجهاد. ووقع في أكثر الآيات أن المسيح إنسان ورسول فقط ، ووقع في موضع بضدها أنه ليس من جنس البشر ، بل منزلته أعلى منه. والأول قوله في سورة النساء : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ...) [النساء : ١٧١] ، والثاني قوله في سورة التحريم : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ...) [التحريم : ١٢] وهذان الاختلافان من أعظم الاختلافات في زعم القسيسين. ولذا اكتفى عليهما صاحب ميزان الحق في الفصل الثالث من الباب الثالث منه.
وأقول : في الجواب عن الاختلاف الأول ، ان هذا ليس باختلاف بل هذا الحكم كان قبل الجهاد ، فلما نزل حكم الجهاد نسخ هذا الحكم. والنسخ ليس باختلاف معنوي ، وإلا يلزم أن يكون بين الإنجيل والتوراة في جميع الأحكام المنسوخة اختلاف معنوي ، وكذا في نفس أحكام التوراة ، وكذا في نفس أحكام الإنجيل ، كما عرفت في الباب الثالث بما لا مزيد