طبعاً ظهرت هنا مجموعة تفريطية تنكر عالم الأسباب أيضاً ، لأنّهم تصوروا أنّ الاعتقاد بعالم الأسباب يتنافى مع التوحيد في الأفعال ، فيقولون : إنّ النّار لا تحرق ، فالله هو الذي يحرق ذلك الشيء عند ما نقرب النار إليه ، الماء لا يُطفئ النّار ، الله هو الذي يُطفئها عند ما نصب الماء على النّار ، وهكذا فهم ينكرون جميع الروابط بين العلة والمعلول ، وهي من الروابط البديهية في عالم الخلقة.
في الوقت الذي يقر فيه القرآن المجيد عالم الأسباب ويعترف به بشكل واضح وصريح حيث يقول : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (١) ، فكلمة (فَيُحْيِي بِهِ) يعني بقطرات المطر تُحيى الأرض. وهذه الآية لها دلالة واضحة وصريحة على الإقرار والاعتراف بعالم الأسباب. ولكن هذه الأسباب ليس لها تأثير مستقل ، فكل ما لديها هو من الله.
فهذه الآثار الظاهرة هي من الله ، فكما أنّ منكري الأسباب الطبيعية مخطئون وغافلون ، فكذلك منكرو الأسباب في عالم التشريع.
نأمل منهم أن يتوجهوا إلى ما ذكر ، وأن يبتعدوا عن التعصب ، ويعودوا إلى الصواب ، وينهوا مسيرة التكفير والتفسيق ، ويأتلفوا مع مسلمي العالم ، ويقفوا في وجه الأعداء الذين جعلوا الله والقرآن والإسلام هدفاً لهجماتهم ، وأن يبيِّنوا التعاليم الإسلاميّة للمجتمع العالمي خالية من الشرك والغلو والنقصان.
شعبان المعظّم ١٤٢٦
ناصر مكارم الشيرازي
__________________
(١). سورة الروم ، الآية ٢٤.