قلت : أكثر ذنوبه أنه لا يصلح ، لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه ، وآثره وأحبّه من الضلال والغي ، على بصيرة من أمره ، فآثر هواه على حقّ ربه ومرضاته ، واستحبّ العمى على الهدى ، وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم جحدا لهيئته ، والشرك به ، والسعي في مساخطه أحبّ إليه من شكره وتوحيده والسعي في مرضاته ، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه ، وأيّ ذنب فوق هذا؟ فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمّن هذا شأنه ، كان قد عدل فيه ، وانسدت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد ، فأظلم قلبه ، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه ، فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالا وكفرا.
وإذا تأمّل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية ، وما تضمّنته من أسرار التوحيد والعذر والعدل ، وعظمة شأن الربوبية ، صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة ، وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار ، وأن الرب تعالى ربّ كل شيء ومليكه ، من الأعيان والصفات والأفعال ، والأمر كله بيده ، والحمد كله له ، وأزمّة الأمور بيده ، ومرجعها كلها إليه ، ولهذه الآية شأن فوق عقولنا ، وأجلّ من أفهامنا ، وأعظم مما قال فيها المتكلمون الذين ظلموها معناها ، وأنفسهم كانوا يظلمون. تالله لقد غلظ عنها حجابهم ، وكثفت عنها أفهامهم ، ومنعتهم من الوصول إلى المراد بها أصولهم التي أصّلوها وقواعدهم التي أسسوها ، فإنها تضمنت إثبات التوحيد ، والعدل الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، والعدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاة القدر ، وتضمنت إثبات الحكمة والقدرة والشرع والقدر والسبب والحكم والذنب والعقوبة ، ففتحت للقلب الصحيح بابا واسعا من معرفة الرب تعالى بأسمائه ، وصفات كماله ، ونعوت جلاله ، وحكمته في شرعه وقدره ، وعدله في عقابه ، وفضله في ثوابه.