يقول أعبد خلقه له يوم القيامة ، وهم الملائكة : سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك. فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ، ويستحقه لذاته وإحسانه ، فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه ، بوجه من الوجوه ، فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه ، وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم ، فلو عذبهم لعذبهم بما يعلمه منهم ، وإن لم يحيطوا به علما ، ولو عذبهم قبل أن يرسل رسله إليهم على أعمالهم ، لم يكن ظالما لهم ، كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله ، على كفرهم وشركهم وقبائحهم ، فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض ، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (١) ، ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته.
وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ، ولا يقوم بذلك أحد ، كان حقه سبحانه على كل أحد ، وله المطالبة به ، وإن لم يغفر له ويرحمه ، وإلا عذبه ، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه ، فإن لم يحفظهم هلكوا ، وإن لم يرزقهم هلكوا ، وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا ، ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)) [الأعراف] وهذا شأن ولده من بعده.
وقد قال موسى كليمه سبحانه : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي (٤٤)) [النمل] وقال : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)) [الأعراف] وقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)) [الأعراف] وقال :
__________________
(١) رواه مسلم (٢٨٦٥) عن عياض بن حمار المجاشعي.