يعذبه على ذلك ، إذا كان قد تعاطى أسبابه بإرادته ومحبته ، كما يعاقب السكران على ما جناه في حال سكره ، لتفريطه وعدوانه بارتكاب السبب ، وكما يعاقب العاشق الذي غلب على صبره وعقله ، وخرج الأمر عن يده لتفريطه السابق ، بتعاطي أسباب العشق ، وكما يعاقب الذي آل به إعراضه وبغضه للحقّ إلى أن صار طبعا وقفا ورينا على قلبه ، فخرج الأمر عن يده ، وحيل بينه وبين الهدى ، فيعاقبه على ما لم يبق له قدرة عليه ، ولا إرادة ، بل هو ممنوع منه ، وعقوبته عليه عدل محض ، لا ظلم فيه بوجه ما.
فإن قيل : فهل يصير في هذه الحال مكلّفا ، وقد حيل بينه وبين ما أمر به وصدّ عنه ومنع منه ، أم يزول التكليف؟.
قيل : ستقف على الجواب الشافي ، إن شاء الله ، عن هذا السؤال في باب «القول في تكليف ما لا يطاق» قريبا ، فإنه سؤال جيد ، إذ المقصود هاهنا الكلام في الجبر وما في لفظه من الإجمال وما في معناه من الهدى والضلال.
فصل
قال الجبري : إذا صدر من العبد حركة معينة ، فإما أن تكون مقدورة للرب وحده ، أو العبد وحده ، أو للرب والعبد ، أو لا للربّ ولا للعبد ، وهذا القسم الأخير باطل قطعا ، والأقسام الثلاثة قد قال بكلّ واحد منها طائفة ، فإن كانت مقدورة للرب وحده ، فهو الذي يقوله : وذلك عين الجبر ، وإن كانت مقدورة للعبد وحده ، فذلك إخراج لبعض الأشياء عن قدرة الربّ تعالى ، فلا يكون على كل شيء قدير ، ويكون العبد المخلوق الضعيف قادرا