حتى يكتب عند الله صدّيقا ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (١).
وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه ، أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الحسنة الأولى ، وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الأولى ، فالأول كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)) [النساء] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (٦٩)) [العنكبوت] وقال : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)) [المائدة].
وأما قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥)) [محمد] فيحتمل أن لا يكون من هذا وتكون الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة ، فإنه رتب هذا الجزاء على قتلهم ، ويحتمل أن يكون منه ، ويكون قوله : «سيهديهم ويصلح بالهم» إخبارا منه سبحانه عما يفعله بهؤلاء الذين قتلوا في سبيله قبل أن قتلوا ، وأتى به بصيغة المستقبل إعلاما منه بأنه يجدد له كل وقت نوعا من أنواع الهداية. وإصلاح البال شيئا بعد شيء.
فإن قلت : فكيف يكون ذلك المستقبل خبرا عن الذين قتلوا؟.
قلت : الخبر قوله : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)) [محمد] أي : أنه لا يبطلها عليهم ، ولا يترهم إياها ، هذا بعد أن قتلوا ، ثم أخبر سبحانه خبرا مستأنفا عنهم ، أنه سيهديهم ويصلح بالهم ، لما علم أنهم سيقتلون في سبيله ، وأنهم
__________________
(١) رواه البخاري (٦٠٩٤) ، ومسلم (٢٦٠٧) عن عبد الله بن مسعود.