فإن قيل : كيف يعاقب على ترك المعصية حياء من الخلق ، وإبقاء على جاهه بينهم ، وخوفا منهم أن يتسلطوا عليه ، والله سبحانه لا يذم على ذلك ، ولا يمنع منه؟.
قيل : لا ريب أنه لا يعاقب على ذلك ، وإنما يعاقب على تقربه إلى الناس بالترك ، ومراءاتهم به ، وأنه تركها خوفا من الله ومراقبة ، وهو في الباطن بخلاف ذلك ، فالفرق بين ترك يتقرب به إليهم ومراءاتهم به ، وترك يكون مصدره الحياء منهم ، وخوف أذاهم له ، وسقوطه من أعينهم ، فهذا لا يعاقب عليه ، بل قد يثاب عليه إذا كان له فيه غرض بحبه الله ، من حفظ مقام الدعوة إلى الله ، وقبولهم منه ، ونحو ذلك.
وقد تنازع الناس في الترك ، هل هو أمر وجودي ، أم عدمي ، والأكثرون على أنه وجودي.
وقال أبو هاشم وأتباعه : هو عدميّ ، وإنّ المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل ، لا على ترك يقوم بقلبه. وهؤلاء رتّبوا الذّمّ والعقاب على العدم المحض ، والأكثرون يقولون : إنما يثاب من ترك المحظور على ترك وجودي ، يقوم بنفسه ، ويعاقب تارك المأمور على ترك وجودي ، يقوم بنفسه ، وهو امتناعه وكفّه نفسه عن فعل ما أمر به ، إذا تبين هذا ، فالحسنات التي يثاب عليها كلّها وجودية ، فهو سبحانه الذي حبّب الإيمان والطاعة إلى العبد ، وزيّنه في قلبه ، وكرّه إليه أضدادها. وأما السيئات فمنشؤها من الجهل والظلم ، فإنّ العبد لا يفعل القبيح إلا لعدم علمه بكونه قبيحا ، أو لهواه وشهوته ، مع علمه بقبحه ، فالأول جهل ، والثاني ظلم ، ولا يترك حسنة إلا لجهله بكونها حسنة ، أو لرغبته في ضدها ، لموافقته هواه وغرضه. وفي الحقيقة فالسيئات كلها ترجع إلى الجهل ، وإلا فلو كان علمه تاما برجحان ضررها لم يفعلها ، فإن هذا خاصة الفعل ، فإنه إذا علم أن إلقاءه بنفسه من