مكان عال يضره ، لم يقدم عليه ، وكذلك لبثه تحت حائط مائل ، وإلقاؤه نفسه في ماء يغرق فيه ، وأكله طعاما مسموما ، لا يفعله لعلمه التام بمضرته الراجحة ، بل هذه فطرة فطر الله عليها الحيوان بهيمه وناطقه ، ومن لم يعلم أن ذلك يضره ، كالطفل والمجنون ، والسكران الذي انتهى سكره ، فقد يفعله.
وأما من أقدم على ما يضره ، مع علمه بما فيه من الضرر ، فلا بد أن يقوم بقلبه أن منفعته له راجحة ، ولا بد من رجحان المنفعة عنده ، إما في الظن ، وإما في المظنون ، ولو جزم راكب البحر بأنه يغرق ، ويذهب ماله ، لم يركب أبدا ، بل لا بدّ من رجحان الانتفاع في ظنه ، وإن أخطأ في ذلك. وكذلك الذنوب والمعاصي ، فلو جزم السارق بأنه يؤخذ ، ويقطع ، لم يقدم على السرقة ، بل يظن أنه يسلم ويظفر بالمال. وكذلك القاتل والشارب والزاني ، فلو جزم طالب الذنب بأنه يحصل له الضرر الراجح ، لم يفعله ، بل إما أن لا يكون جازما بتحريمه ، أو لا يجزم بعقوبته ، بل يرجو العفو والمغفرة ، وأن يتوب ويأتي بحسنات تمحو أثره.
وقد يغفل عن هذا كله بقوة وإرادة الشهوة ، واستيلاء سلطانها على قلبه ، بحيث تغيبه عن مطالعة مضرة الذنب ؛ والغفلة من أضداد العلم ، كالغفلة. والشهوة أصل الشر كله ، قال تعالى ، (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)) [الكهف].
وينبغي أن يعلم أن الهوى وحده لا يستقل بفساد السيئات إلا مع الجهل ، وإلا فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ، ولا بد ، ضررا راجحا ، لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع ، فإنّ الله سبحانه جعل في النفس حبا لما ينفعها وبغضا لما يضرها ، فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا ، ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحجى واللب. فالبلاء