فصل
وهاهنا حياة أخرى غير الحياة الطبيعية الحيوانية ، نسبتها إلى القلب كنسبة حياة البدن إليه ، فإذا أمدّ عبده بتلك الحياة ، أثمرت له ، من محبته وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وطاعته ، مثل ما تثمر حياة البدن له ، من التصرف والفعل وسعادة النفس ونجاتها وفلاحها ، بهذه الحياة ، وهي حياة دائمة سرمدية ، لا تنقطع ، ومتى فقدت هذه الحياة ، واعتاضت عنها بحياتها الطبيعية الحيوانية ، كانت ضالة معذبة شقية ، ولم تسترح راحة الأموات ، ولم تعش عيش الأحياء كما قال تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)) [الأعلى] فإن الجزاء من جنس العمل ، فإنه في الدنيا لما لم يحيا الحياة النافعة الحقيقية التي خلق لها ، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم ، ولم يكن ميتا عديم الإحساس ، كانت حياته في الآخرة كذلك ، فإنّ مقصود الحياة حصول ما ينتفع به ويلتذّ به ؛ والحيّ لا بد له من لذة أو ألم ، فإذا لم تحصل له اللذة ، لم يحصل له مقصود الحياة ، كمن هو حيّ في الدنيا ، وبه أمراض عظيمة ، تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الأصحاء ، فهو يختار الموت ويتمناه ، ولا يحصل له ، فلا هو مع الأحياء ولا مع الأموات.
إذا عرف هذا ، فالشرّ من لوازم هذه الحياة ، وعدمها شر ، وهو ليس بشيء حتى يكون مخلوقا ، والله خالق كلّ شيء ، فإذا أمسك عن عبد هذه الحياة ، كان إمساكها خيرا بالنسبة إليه سبحانه ، وإن كان شرا بالإضافة إلى العبد لفوات ما يلتذّ ويتنعم به ، فالسيئات من طبيعة النفس ، ولم يمد بهذه الحياة