الإرادة أمرا خارجا عنها ، فحينئذ إما أن يكون مخلوقا ، أو يكون هو الخالق سبحانه ، والأول محال ، لأن ذلك المحدث إن كان غير مريد ، لم يمكنه جعل الإنسان مريدا وإن كان مريدا فالكلام في إرادته كالكلام في إرادة الإنسان سواء ، فتعيّن أن يكون المحدث لتلك الإرادة هو الخالق لكل شيء ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن.
قال القدري : قد اختلفت طرق أصحابنا في الجواب عن هذا الإلزام ، فقال الجاحظ : العبد يحدث أفعاله بغير إرادة منه ، بل مجرد قدرته وعلمه بما في الفعل من الملاءمة ، فإذا علم موافقة الفعل له ، وهو قادر عليه ، أحدثه بقدرته وعلمه ، وأنكر توقّفه على إرادة محدثة ، وأنكر حقيقة الإرادة في الشاهد ، ولم ينكر الميل والشهوة ، ولكن لا يتوقف إحداث عليها ، فإن الإنسان قد يفعل ما لا يشتهيه ولا يميل إليه. وخالفه جميع الأصحاب ، وأثبتوا الإرادة الحادثة ، ثم اختلفوا في سبب حدوثها.
فقال طائفة منهم : كون النفس مريدة أمر ذاتي لها ، وما بالذات لا يعلّل ، ولا يطلب سبب وجوده ، وطريقة التعليل تسلك ما لم يمنع منها مانع ، واختصاص الذات بالصفة الذاتية لا تعلل ، فهكذا اختصاص النفس بكونها مريدة هو أمر ذاتي لها ، وبذلك كانت نفسا. فقول القائل : لم أردت كذا ، وما الذي أوجب لها إرادته ، كقوله : لم كانت نفسا؟ وكقوله : لم كانت النار محرقة أو متحركة؟ ولم كان الماء مائعا سيالا؟ ولم كان الهواء خفيفا؟ فكون النفس مريدة متحركة بالإرادة هو معنى كونها نفسا ، فهو بمنزلة قول القائل : لم كانت نفسا؟ وحركتها بمنزلة حركة الفلك ، فهي خلقت هكذا.
قالت طائفة أخرى : بل الله سبحانه أحدث فيها الإرادة ، والإرادة صالحة للضدين ، فخلق فيها إرادة تصلح للخير والشر ، فآثرت هي أحدهما على الآخر بشهوتها وميلها ، فأعطاها قدرة صالحة للضدين ، وإرادة صالحة لهما ،