يكون خالق الجهة والمدة منزها عن المباينة بالمكان والجهة ، ومنزها عن السبق على العالم بالزمان والمدة كان أولى. ولهذا قال الإمام الأجل علي بن أبي طالب عليهالسلام : «الذي أيّن الأين. لا يقال له : أين؟ والذي كيف الكيف ، لا يقال له : كيف؟» ونقل عن الفيلسوف أرسطاطاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات : «من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية ، فليستحدث لنفسه فطرة أخرى» ومراده : أن الإنسان ألف أحكام الوهم والخيال ، والمباحث الإلهية لا يوافقها أحكام الأوهام والخيالات. فلهذا السبب وجب على هذا الطالب استحداث فطرة أخرى.
فهذا جملة الكلام في بيان أن ادعاء البديهة في نفي موجود ، لا يكون موجودا داخل العالم ولا خارجه : قول باطل.
وأما القائلون بأن هذه المقدمة بديهية. فقد يذكرون في تقريرها عبارات مختلفة.
فالعبارة الأولى : قالوا : إنه تعالى خلق العالم في ذاته أو خارج ذاته أولا في ذاته ولا خارج ذاته؟ والأول باطل وإلا لزم أن تكون ذاته مخالطة لهذه الأجسام المستقذرة. والثاني يوجب القول بأنه تعالى مباين للعالم بالحيز والجهة. وأما الثالث وهو أنه تعالى خلق هذا العالم لا في ذاته ولا خارج ذاته فهذا. قول لا يقبله العقل البتة فكان باطلا.
والعبارة الثانية : قالوا : الموجودان لا يعقلان إلا أن يكون أحدهما ساريا في الآخر. مثل العرض والجوهر ، أو مباينا عنه في جهة من الجهات الست ، مثل الجوهرين والجسمين. فأما القسم الثالث وهو أن لا يكون أحدهما ساريا [في الآخر ، ولا (١)] مباينا عنه بشيء من الجهات فهذا مما لا يقبله العقل.
والعبارة الثالثة : قالوا : إن صريح العقل حاكم بأن الشيء إذا لم يكن حاصلا في هذه الجهة البتة ، ولم يكن حاصلا في شيء من الجهات الست
__________________
(١) من (س).