محال. فالعقل وحده لا يمكنه في هذا الموضع أن يجزم بأن أحد الطرفين ، لا محال : واقع. لأن حكم العقل (١) هاهنا : استواء الطرفين. والحكم بوقوع أحد الطرفين لا محال : جزم بحصول (٢) الرجحان. والجمع بين الاستواء وبين الرجحان : مال. فيثبت : أن العقل لما تقرر عنده هذا الاستواء : امتنع أن يحكم بالرجحان (٣) إلا بدليل منفصل ، وهو الدليل السمعي. وعلى هذا التقدير يكون [هذا (٤)] العلم بحصول ذلك الرجحان مستندا إلى الدليل السمعي. فوجب أن يكون الجاهل بذلك الدليل السمعي : جاهلا بذلك الرجحان. ومعلوم أنه ليس كذلك ، لأن الملحد والموحد كلهم قاطعون ، بامتناع حصول القصر ، إلا عن المادة السابقة.
وأما قوله سابعا : «إن المتكلمين حكموا بافتقار البناء إلى الباني ، وحكموا باستغناء البناء عن المادة والمدة» فنقول : إنه لا عبرة في تمييز البديهيات عن النظريات بقول المتكلمين. وذلك لأنهم عند الإلزامات القوية ، قد اعتادوا التزام المحالات ، وارتكاب المنكرات. ألا ترى أن الجبرية لما ألزموا على المعتزلة : أن القادر لما كان قادرا على الضدين ، امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح ، وحينئذ يلزم الجبر.
فالمعتزلة : خوفا من هذا الإلزام : جوزوا رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح. مع أن العقلاء المحققين اتفقوا على أن هذه المقدمة بديهية. ولهذا الباب نظائر كثيرة.
بل نقول : العبرة في تمييز البديهيات عن النظريات : بالعقلاء الذين بقوا على الفطرة الأصلية ، والسلامة الخلقية ، وما مارسوا المحالات ، ولم يألفوا التزام المنكرات والمحالات ، في مواقف المناظرات. ومعلوم أن جميع عقلاء
__________________
(١) العقلاء (ت)
(٢) بوجود (ط ، س)
(٣) بين الرجحان (ت)
(٤) من (ت)