ها هي ذي تخلو الى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري عن الناس والاحتجاب عن الانظار وها هي في خلوتها مطمئنة الى انفرادها واذا هي تفاجأ برجل مكتمل سوي : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وها هي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة فتلجأ الى الله تستعيذ به وتستنجده لاغاثتها.
(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).
وهنا يزداد الهلع والفزع. فقد تكون حيلة يستغل طيبتها. ثم تدركها شجاعة الانثى المهددة (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) هكذا في صراحة كيف يهب لها غلاما فالحياء هنا لا يجدي (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) فهذا الامر الخارق للعادة لا تتصور مريم وقوعه.
بذلك انتهى الحوار بين الروح الامين جبرائيل (ع) ومريم العذراء ، (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا).
ان السياق لا يذكر كيف حملته. هل كان حملا عاديا كما تحمل النساء. وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة. فاذا هي علقة فمضغة فعظام ويستكمل الجنين مراحله كلها.
ولنشهد مريم تنتبذ مكانا قصيّا عن أهلها. في موقف أشد هولا من موقفها الذي أسلفنا عنه فلئن كانت في الموقف الاول تواجه الحصانة فهي هنا تواجه المخاض الذي (أجاءها). فاذا هي تقول : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) وهي تتمنى لو كانت (نسيا) تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض. (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي) يا لله طفل ولد اللحظة ينادي امه ويطمئن قلبها المضطرب ويرشدها الى طعامها وشرابها ويدلها على