هذا العلم يخص ذاته المقدسة تعالى شأنه ، وأراد أن يبقى مكتوماً حتى عن عباده المؤمنين ، ليتحقق الإختبار الإلهي للبشرية ، وإلّا فلن يؤثر الإختبار.
فإنّنا كثيراً ما نواجه مثل هذه المعاني في آيات القرآن ، وعندما يسأل الرسول صلىاللهعليهوآله عن يوم القيامة يجيب بأنّه ليس له علم بذلك ، وأنّ علمه عند الله. ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال : يا محمّد أخبرني عن الساعة؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهْوَريّ فقال : يا محمّد ، متى الساعة؟ قال : ويحك ، إنّها كائنة فما أعددت لها؟ قال : أمّا إنّي لم اعدّ لها كثير صلاة ولا صيام ، ولكني احبّ الله ورسوله ، قال صلىاللهعليهوآله : فأنت مع من أحببت. قال أنس : فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث (١).
ثم يبيّن في هذا الحديث قاعدة كلية بشأن علم الغيب فيقول : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا).
ثم يضيف مستثنياً : (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ). أي يبلغه ما يشاء عن طريق الوحي الإلهي : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا).
«رصد : في الأصل مصدر ، ويراد به الإستعداد للمراقبة من شيء ؛ ويراد به هنا الملائكة الذين يبعثهم الله مع الوحي إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ليحيطوه من كل جانب ، ويحفظوا الوحي من شرّ شياطين الجن والإنس ووساوسهم ومن كل شيء يخدش أصالة الوحي ، ليوصلوا الرسالات إلى العباد ، وهذا هو دليل من الأدلة على عصمة الأنبياء عليهمالسلام المحفوظين من الزّلات والخطايا بالإمداد الإلهي والقوّة الغيبية ، والملائكة.
في بحثنا للآية الأخيرة التي تنهي السورة تبيان لدليل وجود الحراس والمراقبين فيقول : (لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا).
المراد من العلم هنا هو العلم الفعلي ، وبعبارة اخرى ليس معنى الآية أنّ الله ما كان يعلم عن أنبيائه شيئاً ثم علم ، لأنّ العلم الإلهي أزلي وأبدي وغير منتاه ، بل إنّ المراد هو تحقق العلم الإلهي في الخارج ، ويتخذ لنفسه صورة عينية واضحة ، أي ليتحقق إبلاغ الأنبياء ورسالات ربّهم ويتمموا الحجة بذلك.
__________________
(١) تفسير المراغي ٢٩ / ١٠٥.