ولعلّ أعظم البراهين على عبقرية إنسان ، هو ما يبتكر من الأعمال ، أو الآراء المبتكرة التي لم يسبق إليها. ونحن إذا تصفّحنا حياة الامام علي (عليهالسلام) بتجرد علمي ، رأينا أنه ابتكر امورا لم يسبق إليها. ووثبة تفكيره إلى هذه الأوليات التي تفرد بها خير دليل على فطرة عبقرية مصفاة.
فالامام علي (عليهالسلام) اعجوبة من أعاجيب القضاء ، لأنّه أوّل قاض فرّق بين الشهود لئلا يتواطأ اثنان منهما على شهادة تشوه جمال الحق ، أو تطمس معالمه ، فسنّ بهذه السنة الحميدة البارعة للقضاء ، ما يجعل سبيل الحق لهم واضحا ، وينزّه أحكامهم عن الشبهات ، ويحول بين الذين يتلاعبون بضمائر الناس وبين ما طبعوا عليه من الغش ، فلا يتمكنون من خداع القاضي.
وهو أوّل من سجّل شهادات الشهود حتى لا تتبدّل شهادة ـ بإغراء من رشوة ، أو تدليس من طمع ، أو ميل مع عاطفة ـ فكان بذلك مبتكرا من أعظم المبتكرين ، لأنّ صيانة حقوق الناس من العبث والغش أثمن من حياة الناس نفسها. فجاءت الأجيال والامم والحكومات والدول لتسير على الاسلوب الذي رسمه الامام الأعظم (عليهالسلام). وهو أوّل مكتشف أو مبتكر للتفريق ما بين لبن ام الانثى وام الذكر.
وروي في «كنز العمّال في السنن والأقوال» ج ٣ ص ١٧٠ عن شريح القاضي قال : كنت أقضي لعمر بن الخطاب ، فأتاني يوما رجل فقال : يا أبا اميّة! إنّ رجلا أودعني امرأتين : إحداهما حرة مهيرة ـ أي غالية المهر ، والجمع مهائر ـ والاخرى سريّة ، فجعلتهما في دار ، وأصبحت اليوم وقد ولدتا غلاما وجارية ، وكلتاهما تدّعي الغلام ، وتنتفي من الجارية ، فاقض بينهما بقضائك.
قال : فلم يحضرني شيء فيهما ، فأتيت «عمر» فقصصت عليه القصّة. فقال :«فما قضيت بينهما؟» قلت : «لو كان عندي قضاؤهما ما أتيتك!».
فجمع عمر من حضر من أصحاب النبي (ص) وأمرني فقصصت عليهم ، فشاورهم في ذلك ، فكلّهم ردّ الرأي إليه وإليّ ..