ومن إنسانيته التي لا تجارى ، خبر المجنونة التي قامت عليها البيّنة في عهد عمر ، أنّه فجر بها رجل ، فأمر عمر بجلدها الحدّ ، فمرّ بها الأمام علي (ع) فقال : «ما بال مجنونة آل فلان تقتل؟». فقيل له : «إنّ رجلا فجر بها وهرب ، وقامت البينة عليها ، فأمر عمر بجلدها!» فقال (ع) : ردّوها إليه وقولوا له : أما علمت أنّ هذه مجنونة آل فلان ، وأنّ النبي (ص) قد رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق ، إنّها مغلوبة على عقلها. ونفسها فردّت إليه ، وقيل له ذلك ، فقال : فرّج الله عنه ، لقد كدت أهلك في جلدها! ...
ومن مواهبه (ع) ليتمكن من الوصول إلى الحقيقة ما ذكره عنه الأصبغ بن نباتة قال : «إنّ شابا شكا إلى علي (ع) نفرا ، فقال : إنّ هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر فعادوا ، ولم يعد أبي فسألتهم عنه. فقالوا : مات ، ما ترك شيئا ، وكان معه مال كثير ، وترافعنا إلى شريح القاضي فاستحلفهم وخلّى سبيلهم. فدعا عليّ بالشرط ، فوكّل بكلّ رجل رجلين وأوصاهم أن لا يمكّنوا بعضهم أن يدنو من بعض ، ولا أن يمكّنوا أحدا يكلمهم.
ودعا كاتبه ، ودعا أحدهم فقال : أخبرني عن أب هذا الفتى ، أي يوم خرج معكم؟ وفي أي منزل نزلتم؟ وكيف كان سيركم؟ وبأي علة مات؟ وكيف اصيب بماله؟ وسأل عمن غسله ودفنه؟ ومن تولى الصلاة عليه؟ وأين دفن؟ والكاتب يكتب ، فكبر علي (ع) ، فكبّر الحاضرون والمتهمون لا علم لهم ، إلّا أنهم ظنوا أنّ صاحبهم قد أقرّ عليهم.
ثم دعا آخر بعد أن غيّب الأول من مجلسه ، فسأله كما سأل صاحبه ، ثم الآخر كذلك ، حتى عرف ما عند الجميع ، فوجد كل واحد يخبر بضد ما أخبر صاحبه.
ثم أمر برد الأول فقال : يا عدوّ الله قد عرفت عنادك وكذبك بما سمعت من أصحابك ، وما ينجيك من العقوبة إلّا الصدق ، ثم أمر به إلى السجن وكبّر وكبّر معه الحاضرون ، فلمّا أبصر القوم الحال ، لم يشكّوا أن صاحبهم أقرّ عليهم.
فدعا آخر منهم فهدّده فقال : يا أمير المؤمنين ، والله لقد كنت كارها لما صنعوا. ثم دعا الجميع ، فأقروا بالقصة ، واستدعى الذي في السجن. وقيل له : قد أقرّ أصحابك