كان من حقه أن يضع لهذه الغريزة الجامحة نظاما كاملا عادلا يقيها من الكبت ويصونها عن الانطلاق ، ويحفظها عن التأرجح ، ليفي للمرء بجميع ضروراته ويوازن بين جميع غرائزه ، وليتجه به متوازن القوى مستقيم الطباع معتدل الأخلاق والأعمال والملكات ، ليتجه به كذلك وحدة متزنة مستقيمة إلى كماله الأعلى في داره الاولى وفي حياته الاخرى ، ومن أحق من دين الله بهذه النظرة العادلة المستوعبة وبهذا التشريع القيم الحكيم؟.
وضروري لدين الحياة أن يقوم بهذا الاصلاح للانسان ، فيؤسس أحكامه على العدل ، ويضبط حركاته وسكناته على التوازن ، وينشيء غرائزه وجميع قواه ومشاعره على الاستقامة ، فلا يؤتي ناحية من نواحيه الكثيرة أزيد مما تستحق ، ولا ينقصها شيئا مما تستوجب ، ولا يدعها هملا تتخبط في أمرها كما تبتغي الأهواء.
ضروري لدين الله الذي شرعه للأبد أن يقوم بهذا الاصلاح الشامل ، ولا بدّ وأن تكون هذه ركائزه وهذه مميزاته.
هكذا يجب أن تكون صفة دين الله ، نعم وهكذا كان ، وهكذا شمل وعم ، فليس الرجل أكثر اختصاصا به من المرأة ، ولا الشيخ أحق به من الشاب ، ولا الفرد أولى برعايته من الامة. إنّه ضرورة ماسة تقتضيها كل جهاته وكل أحواله وكل روابطه وعلائقه ، فلا بدّ منه ، ولا بدّ من شمول نظرته وشمول اصلاحه.
والعدل التام في جميع أنحاء الانسان وبين جميع آحاده ، والموازنة الدقيقة بين ما يجب له من شيء وما يجب عليه من حق ، هذا العدل المتكامل هو الغاية العظمى التي وضع الله من أجلها الدين ورسم خطوطه وشرع مناهجه :
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١).
نعم وتلك هي التربية الحكيمة التي أرادها الله رب العالمين ، وذلك هو قانون
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ١١٥.