وأمّا «الوسوسة في التفكّر في الخلق» كما في النبويّ الثاني أو «التفكّر في الوسوسة فيه» كما في الأوّل ، فهما واحد ، والأوّل أنسب ، ولعلّ الثاني اشتباه من الراوي. والمراد به ـ كما قيل ـ : وسوسة الشيطان للانسان عند تفكّره في أمر الخلقة ؛ وقد استفاضت الأخبار بالعفو عنه.
ففي صحيحة جميل بن درّاج ، قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : «إنّه يقع في قلبي أمر عظيم ، فقال عليهالسلام : قل : لا إله إلّا الله ، قال جميل : فكلّما وقع في قلبي شيء قلت : لا إله إلّا الله ، فذهب عني» (٢٢). وفي رواية حمران عن أبي عبد الله عليهالسلام ، عن الوسوسة وإن كثرت ، قال : «لا شيء فيها ، تقول : لا إله إلّا الله» (٢٣). وفي صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام : «جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقال : يا رسول الله ، إنّي هلكت ، فقال صلىاللهعليهوآله له : أتاك الخبيث ، فقال لك : من خلقك؟ فقلت : الله تعالى ، فقال : الله من خلقه؟ فقال : إي والذي بعثك بالحقّ قال كذا ، فقال صلىاللهعليهوآله : ذاك والله محض الإيمان». قال ابن أبي عمير : فحدّثت ذلك عبد الرحمن بن الحجّاج ، فقال : حدّثني أبي عن أبي عبد الله عليهالسلام : «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله إنّما عنى بقوله : «هذا محض الإيمان» خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض في قلبه ذلك» (٢٤). وفي رواية اخرى عنه صلىاللهعليهوآله : «والّذي بعثني بالحقّ إنّ هذا لصريح الإيمان ، فإذا وجدتموه فقولوا : آمنّا بالله ورسوله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله» (٢٥). وفي رواية اخرى عنه صلىاللهعليهوآله : «إنّ الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم ، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلّكم ، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله تعالى وحده» (٢٦). ويحتمل أن يراد بالوسوسة في الخلق : الوسوسة في امور الناس وسوء الظنّ بهم ، وهذا أنسب بقوله : «ما لم ينطق بشفتيه».
ثمّ هذا الذي ذكرنا هو الظاهر المعروف في معنى الثلاثة الأخيرة المذكورة في الصحيحة. وفي الخصال بسند فيه رفع عن أبي عبد الله عليهالسلام : «قال : ثلاث لم يعر منها نبيّ فمن دونه : الطيرة ، والحسد ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق» (٢٧). وذكر الصدوق رحمهالله في تفسيرها : أنّ المراد بالطيرة التطيّر بالنبيّ صلىاللهعليهوآله أو المؤمن ، لا تطيّره ؛ كما حكى الله عزوجل عن الكفّار : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) (٢٨) والمراد ب «الحسد» أن يحسد ، لا أن يحسد ؛ كما قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ