وهؤلاء الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها تربو نفوسهم بالرجال والنساء والذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين ، ولا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في صعيد واحد فالأسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها ، ولازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال ، وينيط ظهور حجته ، وتبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون البتة ، وكان ذلك عذراً ( ونعم العذر ) للنصارى في عدم إجابتهم دعوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المباهلة ، وكان ذلك أضر لدعواه منه لدعويهم .
أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين ومن في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة وما والاها ، وأهل نجران ومن والاهم ، وهذا وإن كان أقل وأخف شناعة من الوجه السابق لكنه من حيث استحالة التحقق وامتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة ونجران قاطبة حتى النساء والذراري منهم في صعيد للملاعنة ، وهل هذه الدعوة إلا تعليقاً بالمحال ، واعترافاً بأن الحق متعذر الظهور .
أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام والجدال من الفريقين أعني النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والحاضرين عنده من المؤمنين ، ووفد نجران من النصارى ، ويرد عليه حينئذ ما أورده بقوله : « ثم إن وفد نجران الذين قالوا : إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساءهم وأولادهم ، وكان ذلك وقوعاً فيما ذكره من المحذور » .
ومنها : قوله : أما كون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليهالسلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى : من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين .
أقول : أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق وأما كون الآية دالة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى عليهالسلام فليت شعري من أين له إثبات ذلك ؟ والآية غير متعرضة بلفظها ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك « الخ » ) إلا لشأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومقام التخاطب أيضاً لا يشمل غيره صلىاللهعليهوآلهوسلم من المؤمنين فإن الوفد من النصارى ما كان لهم إلا المحاجة والخصام مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين ، ولا كلموهم بكلمة ، ولا كلمهم المؤمنون بكلمة .
( ٣ ـ الميزان ـ ١٦ )