يقال : عباد الناس بل عبيد الناس ، وتقييد قوله : عباداً لي بقوله : من دون الله تقييد قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى : « أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ » الزمر ـ ٣ ، فرد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتى بعنوان التقرب والتوسل والاستشفاع .
على أن حقيقة العبادة لا تتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة الإشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما ، والله سبحانه له الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته ولا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه .
قوله تعالى : ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون الرباني منسوب إلى الرب ، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحياني لكثير اللحية ونحو ذلك ، فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب وكثير الاشتغال بعبوديته وعبادته ، والباء في قوله : بما كنتم ، للسببية ، وما مصدرية ، والكلام بتقدير القول والمعنى ، ولكن يقول : كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الكتاب للناس ودراستكم إياه فيما بينكم .
الدراسة أخص من التعليم فإنه يستعمل غالباً فيما يتعلم عن الكتاب بقرائته قال الراغب : درس الدار بقي أثرها ، وبقاء الأثر يقتضي انمحائه في نفسه ، فلذلك فسر الدروس بالانمحاء ، وكذا درس الكتاب ، ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ ، لما كان تناول ذلك بمداومة القرائة عبر عن إدامة القرائة بالحفظ ، قال تعالى : ودرسوا ما فيه ، وقال : بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ، وما آتيناهم من كتب يدرسونها انتهى .
ومحصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلمونه وتدرسونه من اصول المعارف الإلهية ، والاتصاف والتحقق بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها ، والعمل بالصالحات التي تدعون الناس اليها حتى تنقطعوا بذلك الى ربكم ، وتكونوا به علماء ربانيين .