وثامناً : قولهم : إنه تحمل الصلب واللعن أيضاً لأن المصلوب ملعون ، ماذا يريدون بقولهم : إنه تحمل اللعن ؟ وماذا يراد بهذا اللعن ؟ أهو هذا اللعن الذي يعرفه العرف واللغة وهو الإبعاد من الرحمة والكرامة أو غير ذلك ؟ فإن كان هو الذي نعرفه ، وتعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة أو إبعاد غيره إياه من الرحمة ؟ فهل الرحمة إلا الفيض الوجودي وموهبة النعمة والاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا الإبعاد واللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما ، وحينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى وتقدس بأي وجه تصوروه ؟ مع أنه الغني بالذات الذي هو يسد باب الفقر عن كل شيء .
والتعليم القرآني على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » الفاطر ـ ١٥ ، والقرآن يسميه تعالى بأسماء ويصفه بصفات يستحيل معها عروض أي فقر وفاقة وحاجة ونقيصة وفقد وعدم وسوء وقبح وذل وهوان إلى ساحة قدسه وكبريائه .
فان قيل : إن اتصافه بالهوان ، وحمله اللعن بواسطة اتحاده بالإنسان ، وإلا فهو تعالى في نفسه وحيال ذاته أجل من أن يعرضه ذلك .
قيل لهم : هل يوجب هذا الاتحاد حمله اللعن واتصافه بهذه الامور الشاقة حقيقة ومن غير مجاز أو لا ؟ فإن كان الأول لزم المحذور الذي ذكرناه ، وإن كان الثاني عاد الإشكال ، أعني أن تولد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة والعدل ، فإن تحمل غيره تعالى للمصائب وأقسام العذاب واللعن لا يتم أمر الفدية أي صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان ، وهو ظاهر .
وتاسعاً : قولهم : إن ذلك كفارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كل العالم ، يدل ذلك على أنهم لم يحصلوا حقيقة معنى الذنوب والخطايا وكيفية استتباعها للعقاب الاخروي وكيف يتحقق هذا العقاب ، ولم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب والخطايا وبين التشريع ، وما هو موقف التشريع من ذلك ؟ على ما يتكفله البيان القرآني وتعليمه .
فقد بينا في المباحث السابقة في هذا الكتاب
، ومن جملتها ما في تفسير قوله تعالى :