وذلك أنه لما فرض أن الهلاك الدائم والعقاب الاخروي محتوم من جهة صدور المعصية لا ينفع في صرفه عن الانسان لا عمل ولا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى لتشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل من عند الله سبحانه ، ولم يزل الوعد والوعيد والانذار والتبشير خالية عن وجه الصحة فماذا كاد يصلحه هذا السعي بعد وجوب العذاب وحتم الفساد .
وإذا فرض هناك من تكمل بالعمل بالشرائع السابقة ( وكم من الأنبياء والربانيين من الامم السالفة كذلك كالنبي المكرم إبراهيم وموسى عليهما السلام وغيرهما ) وقد قضوا وماتوا قبل إدراك زمان الفداء فماذا ترى ؟ أترى أنهم ختموا الحيوة على الشقاء أو السعادة ؟ وما الذي استقبلهم به الموت وعالم الآخرة ؟ استقبلهم بالعقاب والهلاك أم بالثواب والحيوة السعيدة ؟
مع أن المسيح يصرح بأنه إنما ارسل لتخليص المذنبين والمخطئين ، وأما الصلحاء والأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك (١) .
وبالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الالهية وجعل النواميس الدينيه قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث واللغوية ، ولا لهذا الفعل العجيب من الله ( تعالى وتقدس ) ـ محمل حق الا أن يقال ، إنه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شيء من هذه التشريعات قط ، وإنما شرع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوفق يوماً لرفع المحذور ويجني ثمرة تشريعه بعد ذلك ، ويبلغ غايته ويظفر بامنيته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الأمر عن الأنبياء والناس ، وإخفاء أن هٰهنا محذوراً لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء والمؤمنين كافة ، وذهبت الشرائع سدى ، وإظهار أن التشريع والدعوة على الجد والحقيقة .
فغر الناس وغر نفسه : أما غرور الناس فبإظهار أن العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم وسعادتهم ، وأما غرور نفسه فلأن التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود
__________________
(١) فتقمقم الفريسيون والكتبة على تلاميذه قائلين لما تأكلون وتشربون مع العشارين والخطاة أجابهم يسوع قائلاً لا يحتاج الاصحاء إلى الطبيب لكن المرضى لم آت لادعو الصديقين لكن الخطاة إلى التوبة إنجيل لوقا ـ الاصحاح الخامس .