( بيان )
الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم ، وأن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا ولا يسقطوا في حفر المهالك ، وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام ، ولا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد ، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات : لن يضروكم إلا أذى « الخ » .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، قد مر فيما مر أن التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنباً وتحرزاً من عذابه كما قال تعالى : « فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ » البقرة ـ ٢٤ ، وذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى ، والانتهاء عن نواهيه ، والشكر لنعمه ، والصبر عند بلائه ، ويرجع الاخيران جميعاً إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع .
لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية وغفلة ، وهي الطاعة من غير معصية ، والشكر من غير كفر ، والذكر من غير نسيان ، وهو الإسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته ؛ وعلى هذا يرجع معنى قوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون إلى نحو قولنا : ودوموا على هذه الحال ( حق التقوى ) حتى تموتوا .
وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى : « فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ » التغابن ـ ١٦ ، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم ، ولا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس ، فإن في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلا العالمون ، ودقائق ولطائف لا يتنبه لها إلا المخلصون ، فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم ، وأقبلوا بهممهم على ما هو أشق وأصعب .
فقوله : فاتقوا الله ما استطعتم الآية كلام
يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على