ثم لما اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله ، ولاحت لهم آيات السعادة ، وذاقوا شيئاً من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكّرهم به الله من هنيء النعمة ولذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم .
ولذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرد التقدير والفرض فليس العيان كالبيان ، ولا التجارب كالفرض والتقدير ، ولذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا « الخ » إلى حال من قبلهم فإن مآل حالهم بمرأى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل اليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم .
ثم نبههم الله على خصوصية هذا البيان فقال : كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون .
قوله تعالى : ولتكن منكم امة يدعون إلی الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر « الخ » ، التجربة القطعية تدل على أن المعلومات التي يهيئها الإنسان لنفسه في حياته ـ ولا يهيیء ولا يدخر لنفسه إلا ما ينتفع به ـ من أي طريق هيأها وبأي وجه ادخرها تزول عنه إذا لم يذكرها ولم يدم على تكرارها بالعمل ، ولا نشك أن العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوي بقوته ، ويضعف بضعفه ويصلح بصلاحه ، ويفسد بفساده ، وقد مثل الله سبحانه حالهما في قوله : « الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ، الآية » الأعراف ـ ٥٨ .
ولا نشك أن العلم والعمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل والعمل الواقع المشهود أقوى معلم يعلم الإنسان .
وهذا الذي ذكر هو الذي يدعو المجتمع الصالح الذي عندهم العلم النافع والعمل الصالح أن يتحفظوا على معرفتهم وثقافتهم ، وأن يردوا المتخلف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه ، وأن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف وهو الواقع في مهبط الشر المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشر وينهوه عنه .
وهذه هي الدعوة بالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي التي يذكرها الله في هذه الآية بقوله : يدعون إلی الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .