لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا » أسرى ـ ١٠٦ ، فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق ونزل تنزيلاً واوحي نجوماً .
وليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على الحال الذي هو عليه الآن عندنا كتاباً مؤلفاً مجموعاً بين الدفتين مثلاً ثم فرق وانزل على النبي نجوماً ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقري منا قطعات ثم يعلمه ويقريه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه .
وذلك أن بين إنزال القرآن نجوماً على النبي وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقاً بيناً وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا شيء من ذلك ولا ما يشبهه في تعلم المتعلم ، فالقطعات المختلفة الملقاة الى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع وينضم بعضها الى بعض في زمان واحد ، ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى : « فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ » المائدة ـ ١٣ ، وقوله تعالى : « قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ » التوبة ـ ١٢٣ ، وقوله تعالى : « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا » المجادلة ـ ١ ، وقوله تعالى : « خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً » التوبة ـ ١٠٣ ، ونحو ذلك فيلغى سبب النزول وزمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ فالمراد بالقرآن في قوله : وقرآناً فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة .
وبالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح . من الجسد والمتمثل من المثال ـ وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم ـ وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه ، وليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول عليها بها ، وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه . وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل ، ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية والنفوس غير المطهرة .
ثم إنه تعالى قال : « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
» الواقعة ـ ٧٩ ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن
الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغير ، ومن التغير تصرف الأذهان