الاستصحاب أصل أو أمارة
قد عرفنا سابقا (١) الضابط الحقيقي للتمييز بين الحكم الظاهري في باب الأمارات والحكم الظاهري في باب الأصول ، وهو : أنّه كلّما كان الملحوظ فيه أهمّيّة المحتمل كان أصلا ، وكلّما كان الملحوظ قوّة الاحتمال وكاشفيّته محضا كان المورد أمارة.
تقدّم في الجزء السابق الفرق بين الأمارات والأصول ، وتوضيحه مختصرا أن يقال : إنّ الأحكام الظاهريّة يجعلها الشارع في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات عند اشتباهها وعدم تمييز المكلّف لها.
فحقيقة الحكم الظاهري كونه حكما مجعولا لحلّ هذا التزاحم من تقديم الأهمّ بنظر الشارع ، ولذلك فالحكم الظاهري حكم طريقي لا حقيقي ، أي أنّه طريق للكشف عن الأهمّ واقعا بنظر الشارع.
وعلى هذا الأساس فإنّ الأهمّيّة التي يلاحظها الشارع تتصوّر على أنحاء ثلاثة :
الأوّل : أن يلحظ قوّة المحتمل ونوعيّة الحكم المحتمل كأن يلحظ الشارع أهمّيّة ملاكات الإلزام فيجعل الاحتياط أو يلحظ نوع الأحكام الترخيصيّة بأن كانت ملاكاتها هي الأهمّ فيجعل البراءة ، وهذا ما يسمّى بالأصول العمليّة المحضة ، فالأهمّيّة هنا لوحظت على أساس المرجّح الكيفي.
الثاني : أن تلحظ قوّة الاحتمال والكاشفيّة بأن يلحظ الشارع كثرة المطابقة للواقع في هذا الكاشف ، فموارد الإصابة فيه أكثر من موارد الخطأ ولذلك يكون المرجّح هنا كمّيّا ، فيجعل الحجّيّة له من هذا الباب ، كخبر الثقة مثلا الذي جعلت له الحجّيّة على أساس كثرة الإصابة في أخبار الثقات فالملاحظ هو المرجّح الكمّي ، ولا مدخليّة
__________________
(١) في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والأصول.