ثانيهما : أن الاستقامة مع الاستمرار عليها الّتي فسّرنا بها العدالة المعتبرة في جملة من الموارد ، لا يضرها ارتكاب المعصية في بعض الأحيان لغلبة الشهوة أو الغضب فيما إذا ندم بعد الارتكاب ، لأنه حال المعصية وإن كان منحرفاً عن الجادة إلاّ أنه إذا تاب رجع إلى الاستقامة ، وقد قال عزّ من قائل في توصيف المتقين ( إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ) (١) فالشيطان قد يمس العادل كما يمس غيره ، وقد قيل : إن الجواد قد يكبو ، إلاّ أنه إذا تذكر ندم ورجع إلى الاستقامة والعدل.
والمتحصّل : أن الاستقامة الدائمية بمعنى عدم صدور الحرام من المكلف منذ بلوغه إلى آخر عمره غير معتبرة في العدالة. كما لا تعتبر فيها الاستقامة الخارقة للعادة ، كما إذا فرضنا أن الكذبة الواحدة تترتب عليها جملة كثيرة من المنافع الدنيوية والأُخروية ، وفرضنا أيضاً أن النبي أو الوصي عليهالسلام أخبرنا أن الله لا يعاقب المكلف بتلك الكذبة إذ يشفع له الشفعاء يوم القيامة ، فإنه لا يعتبر ترك مثل ذلك في العدالة لاختصاصه كسابقه بقليل من المكلفين بل لا يتحققان إلاّ في الأوحدي ، ولا يحتمل أن تكون العدالة بهذا المعنى معتبرة في موضوعات الأحكام الشرعية لاستلزامه التعطيل كما مرّ ، هذا.
وقد ذهب شيخنا الأنصاري قدسسره (٢) وجمع ممن تقدمه وتأخر عنه إلى أن العدالة زائداً على ما بيّناه من العمل والاستقامة في سلوك جادة الشرع ، يعتبر فيها أن يستند العمل إلى الملكة النفسانية بأن تدعو المكلف إليه وتبعثه على ملازمة الطاعة وترك المعصية ، فالعمل المجرّد من الملكة لا يكون من العدالة في شيء ، وحيث إن الملكة من الصفات النفسانية والأُمور غير المحسوسة فلا مناص من أن نستكشفها بما جعله الشارع معرّفاً إلى وجودها وكاشفاً عنها من حسن الظاهر أو غيره ، وهذا قد استدل عليه بوجوه :
الأوّل : أن الشك في أن الملكة معتبرة في العدالة أو ليست كذلك من الشك في سعة مفهوم العدالة وضيقه وتردده بين السعة والضيق ، ولا مناص معه من الأخذ بالمقدار
__________________
(١) الأعراف ٧ : ٢٠١.
(٢) رسالة في العدالة : ٣٢٧.