لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) : « الزمر : ٥٤ » ، ولا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة ، وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل أمنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله وربما انصرف بوجهه عن مسيره آيسا من النجاح خائبا من الفوز والفلاح ، والتوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه ، ويحيي به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى.
ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية ، وتحريصا على ترك الطاعة ، فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا ، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب ، فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب.
وجه سقوطه : أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران الذنوب : للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره ، وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب ، فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية ، ولا انقلاع في هذا الذي يأتي به ، والدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية ، ولا معنى للندامة ( أعني التوبة ) قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصودا بقصد واحد مكرا وخديعة يخدع بها رب العالمين ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
وخامسا : أن المعصية وهي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيئ في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والإيقان بمساءتها ، ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا ، والندم تأثر خاص باطني من فعل السيئ. ويتوقف على استقرار هذا ، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانيا.
وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح ، والانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الأخبار ، وتعرض له كتب الأخلاق.