٥ ـ هل تقبل سنة الإسلام الاجتماعية الإجراء والبقاء؟ ولعلك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناء وأتقن أساسا حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقا فما باله لم يقبل الإجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية ـ وتحول إمبراطورية أفجع وأشنع أعمالا مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء.
وهذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقى وسنتهم في الاجتماع أتقن وأشد استحكاما ، وقد وضعوا سنتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الأمة واقتراح الطباع والميول ثم اعتبروا فيها إرادة الأكثر واقتراحهم ، لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة ، وغلبة الأكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلا من العلل المادية والأسباب الطبيعية مؤثرة على الأكثر لا على الدوام ، وكذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الأكثر دون الكل ودون الأقل فمن الحري أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر وأما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالا عقليا غير جائز النيل.
وقد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع وسعادتها وتهذب الأفراد وطهارتهم من الرذائل وهي الأمور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب والخيانة والظلم والجفاء والجفاف ونحو ذلك.
وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين وخاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية والنفسية غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر ، ولتوضيح ذلك نقول :
أما قولهم : إن السنة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة ، ومعناه أن الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الأحكام المشرعة في الإسلام فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئا فإن جميع السنن الدائرة في الجامعة الإنسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن وظهرت في حين لم تكن عامة الأوضاع والشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه ، فانتهضت ونازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة وربما اضطهدت وانهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانيا وثالثا