* * *
( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ـ ٣١. )
(بيان)
الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة.
قوله تعالى : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ » ـ إلى قوله : ـ « سَيِّئاتِكُمْ » الاجتناب أصله من الجنب وهو الجارحة بني منها الفعل على الاستعارة ، فإن الإنسان إذا أراد شيئا استقبله بوجهه ومقاديم بدنه ، وإذا أعرض عنه وتركه وليه بجنبه فاجتنبه ، فالاجتناب هو الترك ، قال الراغب : وهو أبلغ من الترك ، انتهى ، وليس إلا لأنه مبني على الاستعارة ، ومن هذا الباب الجانب والجنيبة والأجنبي.
والتكفير من الكفر وهو الستر وقد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيئات والكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي ونحوها ، والكبر معنى إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر ، ومن هنا كان المستفاد من قوله : ( كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) أن هناك من المعاصي المنهي عنها ما هي صغيرة ، فيتبين من الآية : أولا : أن المعاصي قسمان : صغيرة وكبيرة ، وثانيا : أن السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك.
نعم العصيان والتمرد كيفما كان كبير وأمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين الإنسان وربه لا بين معصية ومعصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار وبين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر.
وكبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهي عنها إذا قيس إلى النهي المتعلق بغيرها ولا يخلو قوله تعالى : ( ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) ، من إشعار أو دلالة على ذلك ، والدليل على أهمية النهي تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار ونحو ذلك.