قوله تعالى : « قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً » إلى آخر الآية ، المراد بكونه على بينة من ربه كونه على آية بينة وهي آية النبوة والمعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة ، والمراد بكونه رزق من الله رزقا حسنا أن الله آتاه من لدنه وحي النبوة المشتمل على أصول المعارف والشرائع ، وقد مر توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدم.
والمعنى : أخبروني إن كنت رسولا من الله إليكم وخصني بوحي المعارف والشرائع وأيدني بآية بينة يدل على صدق دعواي فهل أنا سفيه في رأيي؟ وهل ما أدعوكم إليه دعوة سفهية؟ وهل في ذلك تحكم مني عليكم أو سلب مني لحريتكم؟ فإنما هو الله المالك لكل شيء ولستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء ، وله الحكم وإليه ترجعون.
وقوله : « وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ » تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدى بها كالميل ونحوه؟ والتقدير : أخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.
والجملة جواب عن ما اتهموه به أنه يريد أن يسلب عنهم الحرية في أعمالهم ويستعبدهم ويتحكم عليهم ، ومحصله أنه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه ، وهو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتهموه به وإنما يريد الإصلاح ما استطاع.
توضيحه : أن الصنع الإلهي وإن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرا في عمله له أن يميل في مظان العمل إلى كل من جانبي الفعل والترك فله بحسب هذه النشأة حرية تامة بالقياس إلى بني نوعه الذين هم أمثاله وأشباهه في الخلقة لهم ما له وعليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكم على آخر عن هوى من نفسه.
إلا أنه أفطره على الاجتماع فلا تتم له الحياة إلا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثم يختص كل منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعية ، ومن البديهي أن الاجتماع لا يقوم على ساق إلا بسنن وقوانين تجري فيها ، وحكومة يتولاها بعضهم تحفظ النظم وتجري القوانين كل ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.
فلا مناص من أن يفدي المجتمعون بعض حريتهم قبال القانون والسنة الجارية