وهذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم : « أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ » إلخ ، دون أن يقولوا : أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك ولذلك عبر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال : « وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ » ولم يقل إلى ما آمركم بتركه. والمراد ـ على أي حال ـ منعه إياهم عن عبادة الأصنام والتطفيف فافهم ذلك فإنه من لطائف هذه الآية التي ملئت لطافة وحسنا.
وثانيا : أنهم إنما قالوا : « أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا » دون أن يقولوا : أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك وهي أن هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهي سنة قومية لنا ، ولا ضير في الجري على سنة قومية ورثها الخلف من السلف ، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا وهو دين آبائنا ونحفظ رسما مليا عن الضيعة.
وثالثا : أنهم إنما قالوا : « أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا » فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة فإن الشيء إذا صار مالا لأحد لم يشك ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه وليس لغيره ممن يعترف بماليته له أن يعارضه في ذلك ، وللمرء أن يسير في مسير الحياة ويتدبر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق والاحتيال ، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.
ورابعا : أن قولهم : « أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ـ إلى قوله ـ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ » مبني على التهكم والاستهزاء إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما يعبد آباؤهم ، وكذا في نسبة الأمر إلى الصلاة لا غير ، وأما نسبة الحلم والرشد إليه فليس فيها تهكم واستهزاء ، ولذلك أكد قوله : « إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ » بإن واللام وإتيان الخبر جملة اسمية ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه ، وأن الذي لا شك في حلمه ورشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهي ، وينتهض على سلب حرية الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة.
وظهر بذلك أن ما ذكره كثير منهم أنهم وصفوه بالحلم والرشد على سبيل الاستهزاء يعنون به أنه موصوف بضدهما وهو الجهالة والغي. ليس بصواب.