الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات والذحول ولو بعد الأزمان المتطاولة ، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر ، فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه ، حتى يدركوا ثأرهم منه ، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين ، والأسلام لم يحل طبائعهم ، ولا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم ، والغرائز بحالها ، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب ، وعلى الخصوص قريشا ، وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره ، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ، ويتركه بعده وعنده ابنته ، وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ، ومحبة لهما ، ويعدل عنه في الأمر بعده ، ولا ينص عليه ولا يستخلفه ، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه! ألا يعلم هذا العاقل الكامل ، أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية ، فقد عرض دماءهم للأراقة بعده ، بل يكون هو ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو الذي قتله ، وأشاط (١) بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ، وإنما يكونون مضغة للاكل ، وفريسة للمفترس ، يتخطفهم الناس ، وتبلغ فيهم الأغراض!
فأمّا إذا جعل السلطان فيهم ، والأمر إليهم ، فإنّه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرّياسة التي يصولون بها ، ويرتدع الناس عنهم لأجلها ومثل هذا معلوم بالتجربة ، ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس ووترهم ، وأبقي في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ، ثم أهمل
__________________
(١) أشاط بدمائهم : أهدرها أو عمل على هلاكها.