الصفيح الأعلى فعاين عجائب صنعتك ، وأريته ملكوت سماواتك فعلم من اختلاف حركاتها ما أشبه علي غيره واحصي بلطيف روحانيّته مقادير كلّ من أفلاكها وتقديره في مسيره ، ولاحظ ما رصعت به أجرامها من درر دراريها وزواهرها ، وزّينت صفيحها بجواهر نيّراتها من ثابتها وسائرها ، فالشمس والقمر بحسبان حسابه عرف انتقالهما بتحّولهما ، وبكشف صور الأشياء لهوّيته علم مقدار صعودهما وهبوطهما.
آتيته من لدنك علماً فخرق بتأييدك صفوف ملائكتك ، وكشفت الحجاب عن بصيرته فشاهد صفات أشباحهم بعين عنايتك ، فعرفنا هيئاتهم ، واختلاف اشخاصهم وأعلمنا بتقارب درجاتهم وخواصّهم ، حتى كأنّه عمّر فيهم عمره ، وأقام بينهم دهره ، وشاركهم في الإخلاص بعبادة معبودهم ، وشابههم بخشوعهم في ركوعهم وسجودهم ، وساواهم في الاذعان بالطاعة لربّهم ، وساماهم في شرف منازلهم وقربهم.
فاصبح يخبرنا عن شدّة اجتهادهم في تعظيم مبدعهم واخلاص جهادهم في توجهّهم إلى معبودهم وتضرّعهم ، ووصف لنا من عظم اجسادهم ما أذهل عقولنا واعلمنا من تفاوت أشباحهم ما حيرنا وارجف قلوبنا بقوله صلوات الله عليه : ثم فتق ما بين السماوات العلى فملأهنّ أطواراً من ملائكته ، منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافّون لا يتزايلون (١) ، ومسبّحون لا يسأمونَ ـ الى قوله صلوات الله : ـ ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفّعون (٢)
__________________
١ ـ أي قائمون صفوفاً لا يتفارقون.
٢ ـ التلفّع : الالتحاف بالثوب وهو أن يشتمل به حتى يجللّ. « لسان العرب : ٨/٣٢٠ ـ