ويراقبوا سير العامة عليه ، بعد أن قامت الأدلة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف ، وأنه ما جاء إلا لإسعاد الناس والتوفيق بينهم ، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم ـ لم يكن مصدره إلا البغي بينهم ، وتعدى الحدود التي أقامها الدين حواجز بين الناس.
فقد يشوب طلب الحق شىء من الرغبة في عزة الرياسة ، أو ميل مع أربابها ، أو شهوة خفية في منفعة أخرى ، وهذا من البغي على حق الله في عباده ، أو من التعصب للرأى وتأييد المذهب بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان ، وربما كان هذا مع حسن النية ، فيكون هذا مصدر شقاق وخلاف ، وقد كان الواجب تمحيص الآراء ليحصل الوفاق ، لكن هذه الجناية التي جناها الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس بسبب بغيهم لا تقدح في هداية الكتاب إلى ما يتفق عليه الناس من الحق ، فبغى علماء الدين فى التأويل ، وكثرة القيل والقال ليس بعيب في الكتاب ، فالذى يؤتي العقل ثمّ لا يهتدى بهديه ، هل يعد ذلك منقصة له ، تدل على أنه ليس بنعمة من عند الله؟ والذين لهم أبصار ولا يستعملونها في معرفة الطريق التي يسيرون فيها ، ولا في وقاية أرجلهم من الأشواك التي تصادفهم في تلك الطريق ، ولا يتباعدون من حفرة يتردّون فيها ، وربما كانت نظرة واحدة تقيهم من التهلكة لو وجهوا أنظارهم نحوها. وكذلك لا يأخذون حذرهم إذا هم سمعوا الأصوات التي تنذر بالخطر العاجل ـ فهل حال مثل هؤلاء يحطّ من قيمة السمع والبصر؟ كذلك حال رجال الدين لا تقدح في إرشاد الدين ، وقيمة هديه للناس.
وقد رأينا الأديان في بدء نشأتها تلمّ الشمل وتمحق أسباب الخلاف من النفوس ، وتوجد بين معتنقيها أخوّة لا تدانيها أخوة النسب ، فكان الواحد من الصحابة يؤثر أخاه في الدين بماله على نفسه ، ويبذل روحه فداء له ، والأخ من النسب لا يفعل شيئا من ذلك.