(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟) أي قالوا له حين سمعوا مقالته ، مستبعدين أنهم فى ضلال ، ومتعجبين من تضليله إياهم : أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ فإنا لم نسمع بمثله من قبل.
وخلاصة هذا ـ إنهم لما سمعوا منه ما يدل على تحقير آلهتهم ، وتضليله إياهم ، وشاهدوا منه الجد فى القول والغلظة فيه ، طلبوا منه الدليل على صدق ما يقول إن كان جادا ، ثم ارتقوا من هذا إلى بيان أنه هازل لاعب ، كما هو دأبه وعادته من قبل ، ولا يقصد بذلك إظهار حق البتة.
فردّ عليهم منتقلا من تضليلهم فى عبادة الأوثان ، إلى بيان الحق ، وذكر المستحق للعبادة.
(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي قال لهم : بل جئتكم بالحق لا اللعب ـ إن الذي يستحق العبادة من أنشأ السموات والأرض على غير مثال يحتذى ، وأنتم مغمورون بجميل عطفه ، وعظيم جوده وبرّه.
وصفوة هذا ـ إن الجدير بالعبادة هو من ربّاكم تحت ظلال عطفه ، وأنعم عليكم بجزيل برّه ولطفه ، وأوجدكم وأوجد السموات والأرض من العدم ، لا من كان بمعزل عن كل ذلك.
وفى هذا إرشاد إلى أنه ينبغى لهم أن يرعووا عن غيهم ، ويعلموا من يستحق العبادة ، فيعبدونه ويخضعون له ، وبذلك يهتدون إلى الطريق السوىّ.
ثم ختم مقاله بنفي اللعب والهزل عن نفسه فقال :
(وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أدلى على ما أقول بالحجة كما تصحح الدعوى بالشهادة ، وأبرهن عليه كما تبين القضايا بالبينات ، فلست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته ، فإنكم لم تقدروا على الاحتجاج على مذهبكم ، ولم تزيدوا على أن تقولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
وقصارى ما أقول : لست من اللاعبين الهازلين ، بل من العالمين بذلك