لذلك يقول الغزالي : «القياس المنتج لا ينصاغ إلاّ من مقدمات يقينيّة ، إن كان المطلوب يقينيّا أو ظنيّا ، إن كان المطلوب فقهيّا» (١).
واليقيني في المحكّ هو الذي لا يقبل الاحتمال أو الإمكان ، ويكون بمثابة البديهيّات العقليّة والاعتقادات الدينية. فالعلوم الدينية قضاياها جازمة ، كما يقول الغزالي. ف «لنسمّ هذا الجنس اعتقادا جزما وهو أكثر اعتقاد عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم ومذاهبهم ...» (٢). وسبق أن تكلمنا عن رفض الغزالي لموادّ قضايا أرسطو وأقيسته ، واعتماده المادّة الإسلامية مضمونا. وها نحن نجده يعتمد هذه المعاني بما تحمله المصطلحات والتعابير والرموز اللغوية ، فحوى ومعنى ، مثلما شرحنا.
ونستطرد بأنّ الظنّ له دلالات فقهيّة إلى جانب دلالاته العقلية ، كما لليقين دلالات لغويّة وصوفيّة وأصوليّة دينية. وقد ترسّخت هذه المفاهيم متميّزة من غيرها منذ المحكّ. وبهذا انتقلت مادّة القياس فيه إلى مضامين دينية ، بعد أن كانت خليطا ، في المقاصد والمعيار ، من التأثر بابن سينا والتصنيف العقليّ المنطقيّ ، زيادة على بعض المعاني والمرادفات الإسلامية. ومن مواد المقدمات اليقينية التواتر الذي يحصّله الغزالي بقوله : « ... زاد الظنّ ، وهكذا لا يزال يترقّى قليلا قليلا في القوّة إلى أن ينقلب الظنّ على التدريج يقينا إذا انتهى الخبر إلى حدّ التواتر ...» (٣). وتتعلق هذه الشروح بالحديث الشريف وبتواتر المعلومات الإسلامية بشكل محصور ومحدّد.
وقد صنّفت أنواع المقدّمات متشابهة مع المعيار ، وقال الغزالي فيها : «اعلم أنّ مدارك الظنون لست أذكرها فإنها واضحة للفقهاء والناس كافّة ، ولكن أذكر مدارك اليقين والاعتقادات التي يظنّ بها اليقين. ومجامعها في ما حضرني الآن ينحصر في سبعة أقسام ...» (٤). ولم يلبث أن ذكرها بالتفصيل كالآتي : (الأوليّات ، والمشاهدات الباطنة ، والمحسوسات الظاهرة ، والتجريبيّات ، والتواتر ، والوهميّات ، والمشهورات). وكان
__________________
(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٤٥.
(٢) المصدر نفسه ، ص ٤٦.
(٣) المصدر نفسه ، ص ٤٧.
(٤) المصدر نفسه ، ص ٤٧.