ثمانية أيّام ، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب ، وورمت قدماه من كثرة المشي.
وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعا لجوعه ، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلّا قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة.
وبدأت معالم «مدين» تلوح له من بعيد شيئا فشيئا ، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة ، ولما اقترب ثمّ عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.
يقول القرآن في هذا الصدد : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) (١).
فحركه هذا المشهد ... حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام ، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم .. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم ، وعليهم آثار العفّة والشرف ، جاء إليهما موسى عليهالسلام ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و (قالَ ما خَطْبُكُما) (٢).
ولم لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!
لم يرق لموسى عليهالسلام أن يرى هذا الظلم ، وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين ، وهو يريد أن يدخل مدينة مدين ، فلم يتحمل ذلك كله ، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه ، فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم! ..
فقالت البنتان : إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة اغنامهم :
__________________
(١) «تذودان» مشتقة من «ذود» على زنة «زرد» ومعناها المنع ، فهما إذا كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الأخرى.
(٢) ما خطبكما : أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!